شعار قسم مدونات

حقيبة المدرسة!

blogs- school
يتزامنُ خروجي من بيتي إلى مقر عملي، مع توجهِ الطلبةِ إلى مدارسهم، أمشي إلى جانبهم على الأرصفةِ المخصصةِ للمشاة، قبل أن أستقلَ سيارة الأجرة، ولي في المشيِ مآرب كثيرة، أهمها أن أتأملَ سيرهم وظهورهم التي انحنتْ لثقلِ الحقائب التي يحملونها.

فحقيبةُ المدرسة بها كل وجباتِ الصحةِ والاستقامة، بها غذاء المستقبل وبها وقود الشخصية السوية، وبها الخطوط العريضة والدقيقة لصناعةِ الأجيال الواعدة، بها كتبُ العلوم والدين والعربي والرياضيات والاجتماعيات والجغرافيا والتاريخ، بها الكثير الذي يجعلُ الطلبة لأن يتشبثوا بها، ويتحملوا عناءَ حملها على ظهورهم خلال رحلات ذهابهم وإيابهم اليومية من وإلى المدرسة..
 

لا عيب أن ينحني المتعلمون لأجلِ التعلم والعلم، لكن العيب أن ينحنوا لمن يُريدون أن ينحنوا جهلاً أو تجهيلاً، وهو هدف كل احتلالٍ في العالم.

طالما كانتْ حقيبة المدرسة تُعطيني الدفء والجاذبية، وطالما كانتْ ملهمتي ومشجعتي، ومصدرَ لأفكارٍ كثيرةٍ تدور في رأسي، أو تقتحم مخيلتي فجأة، فتستفزني لأن تكونَ في يومٍ من الأيام بطلةً لفيلمٍ وثائقيٍ قصيرٍ، أسوقها فيه على أنها المستقبل والحلم والأمل، وعلى أنها رفيقة دربِ الطالب المجتهد، وسيدة مشجعيه بلا منازع، فلا معنى لتواجد الطالب في المدرسة بلا حقيبةٍ تُنيرُ عالمه بما فيها من كتبٍ ودفاتر وأقلام وألوان، وبما فيها أيضاً من "ساندوتش" تصنعه أمه بحبٍ ورضا، ليلتهمه في "استراحة" المدرسة القصيرة..
 

حقيبةُ المدرسة؛ تلك الرفيقةُ الوفيةُ التي تُرافقُ كل من يدخلُ عالم المدرسة على مدار اثني عشر عامًا، هي عنوانُ من عناوين صراع الفلسطينيين مع الاحتلال الإسرائيلي الذي جعلَ من الطالب ومدرسته وحقيبته وكتبه هدفاً في كل الحروب التي شنها على غزة، بل في كل ممارساته التعسفية ضد الفلسطيني أينما وُجد، فقد أرادَ لهذه الحقيبةِ أن تندثر، وقد رأينا نماذج لحقائب الطلبة وكتبهم ممزقة تحت أنقاض منازلهم المدرة في حروبه التي ارتكبها مؤخرًا لاسيما خلال أعوام "2008،2012،2014" ،حيثُ كانت المدارس والطلبة والمعلمون من أبرز أهداف آلة القتل والدمار الإسرائيلية.
 

كثيرون ينتقدون حقيبة المدرسة، ويتهمونها بأنها سبب لأوجاع الطالب لاسيما ضعيف البنية الذي لا تقوى أجنحته الصغيرة على حملها، ليطير بها إلى مدرسته، لكنني أقول وإن كانَ لها بعضُ المآخذ، فإن فوائدها أعظم من أن نُحاربها، فضعيف البنية اليوم، هو قوي الغد الذي نعولُ عليه بعقله الذكي واستيعابه ومثابرته واجتهاده!
 

حريٌ بنا أن نشكر تلك الحقيبة التي لم تتخلى عنا ونحنُ نصنعُ مستقبلنا منذ نعومة أظفارنا، وأن ننحني لها إجلالاً، وألا نلومها لأنها ساهمت في انحناء ظهورنا، فلا عيب أن ينحني المتعلمون لأجلِ التعلم والعلم، لكن العيب أن ينحنوا لمن يُريدون أن ينحنوا جهلاً أو تجهيلاً، وهو هدف كل احتلالٍ في العالم أن يهزمَ الشعوب المحتلة عبر بوابة التجهيل إن لم يستطع عبر بوابة الأسلحة الحربية والعسكرية.
 

ومع تقديري لحقيبة المدرسة التي أحبها، فإنني مع تفقدِ ما تحمله من محتوياتٍ وكتبٍ تُغذي عقول الأجيال، بحيثُ تحميهم من كل أشكال التلوث أو العبثِ بالمناهج، وأن تكرسَ دومًا حبَ الانتماء والوطنية، وتستفزُ أرواحهم للاستبسال من أجل أن يكونوا كائنات ملهمة بكل ما تحمله كلمة الإلهام من معانٍ حميدة وخصالٍ فريدة.
 

ففي حقيبة المدرسة، ترسيخٌ للانتماء، تجذرٌ بالأرض، تحقيقٌ للذات، وإثباتٌ لحقِ النفسِ في التعلم، وصيانتها من عوامل التعريةِ التي تُفزعنا برغباتِ كثيرين في الرحيلِ عن أوطانهم، فهي في مقدمةِ المدافعين عن حقوقنا في البقاء، على عكسِ حقيبة السفر التي تشي بضبابيةٍ في الرؤى والأفكار، وتُعطي النفسَ شعوراً بالغربةِ والألم، حتى لو كان الهدف من هذه الحقيبة رحلة مؤقتة عن الديار، حقاً شتان بين حقيبةٍ لم تخدع صاحبها طيلة اثني عشر عاماً من مسيرة التعلم الابتدائي والإعدادي والثانوي، وبين حقيبةٍ زينتْ له الدنيا وجعلته يعشقُ الأوطان الأخرى على حسابِ وطنه الأم.. إنها مقارنة بسيطة بين حقيبتين "حقيبة المدرسة وحقيبة السفر"..!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.