شعار قسم مدونات

شجرة الدر.. عاشقة السلطة

blogs-مصر
لما جاءت رسالة الخليفة العباسي المستعصم للمماليك في مصـر طافحة بالسخرية والاستهزاء منهم، لأنهم ولّوا عليهم امرأة في سابقة لعلها لم تحدث في تاريخ الممارسة السياسة الإسلامية، كان القرار الفوري إزاحتها من منصبها وتعيين "أيبك أتابك" العسكر "قائد الجيش" بديلاً لها، لكن أراد المماليك أن يحفظوا لها قدرها ومكانتها فأشاروا على أيبك أن يتشرف بالزواج منها.

 

فقد كانت زوجة أستاذهم وسيدهم الملك الصالح أيوب، وكانت الآمرة الناهية في البلاد المصرية لفترة ثمانين يوماً نعِمَ الناس فيها بالأمن والهدوء والرخاء، فضلاً عن حكمتها ومهارتها التي تجلت في إدارة الصـراع ضد الصليبيين في معارك "المنصورة" و"فارسكور"، وفي مفاوضات "دمياط".
 

خافت "شجرة الدر" أو غارت، لكنها عزمت على قتل "أيبك"، وبدأت في مشاورة بعض كبار رجال الدولة مثل "صفي الدين إبراهيم بن مرزوق"، وعرضت عليه أن يوافقها في مقابل إعطائه الوزارة والحكم.

وبالفعل تم عقد قرانها على "المعز أيبك" في عام 648هـ، وتغيب عنا "شجر الدر" منذ تنازلها عن العرش حتى بدأت تنسج خيوط المؤامرة على زوجها تارة بالاتصال بالأمراء البحرية المتمردين في الشام، وتارة بمحاولة تشكيل حلف داخلي من بعض كبار النخبة القضائية والعسكرية للفتك بـ"أيبك"، ذلك أنه أراد الزواج من ابنة الملك "الرحيم بدر الدين لؤلؤ" صاحب الموصل في شمال العراق.
 

واللافت أن النويري وهو رجل قد وصل إلى منزلة كبيرة في ديوان الإنشاء ودولاب الإدارة المملوكية عموماً، يأتي ببعض الوثائق المهمة والفريدة التي تؤكد على أن "شجرة الدر" لم تكن حبيسة القصور السلطانية، تقوم بدورها كمجرد زوجة للسلطان "أيبك"، وإنما كانت مُشاركة له في إنفاذ الأوامر والتوقيعات والمناشير.
 

فعلى سبيل المثال أنفذت أمراً بتاريخ 22 جمادى الآخرة سنة 653هـ بإعفاء أحد المستخدمين في بلاط الدولة، وكانت وظيفته الترجمة لها، واسمه كما يتضح من الوثيقة الأمير الأجل الأمجد "نور الدين"، من بعض الضرائب التي فرضت على البيوت والعقارات وقتها وسُميت باسم ضريبة "التصقيع" أو "التسقيع"، وقد علّق النويري على هذه الوثائق التي استخرجها من ديوان الإنشاء وأضافها في موسوعته المهمة "نهاية الأرب"، وأثبت فيها إنفاذ أمر "شجرة الدر" وتوقيعها، بقوله "وكُتب عليه بالامتثال، ونُفّذ حُكمه وعُمل بمقتضاه، وإنما شرحنا هذا التوقيع ليُعلمَ أن تواقيعها كانت جارية بلفظ السلطنة في الدولة المعزّية". أي أن شجر الدر كانت شريكة لـ"أيبك" في الحُكم بوضوح كما أثبت النويري.
 

ويبدو بصورة ظاهرية أن الغيرة كانت السبب في هذا الأمر، لكن "ابن تغري بردي" يؤكد أنها لم تكن العامل الحاسم في نسج هذه المؤامرة التي أفضت لقتل "أيبك"، وإنما تخيّلت "شجرة الدر" منه أنه ربّما عزم على إبعادها أو إعدامها بالكليّة، لأنّه سئم من حجرها عليه واستطالتها، فعاجلته وعزمت على الفتك به وإقامة غيره في الملك.
 

لقد كانت "شجرة الدر" امرأة قوية صلبة أثبتت جدارة وصلابة وقوة في المواقف المختلفة بل ومشاركة في الحكم، لكن ما رأيناه في سلطنة "أيبك" ومواجهته للتحدي الخارجي والداخلي، وسياسته العامة يؤكد أنه كان ذكياً يقظاً ليس ضعيفاً كما قد تُصوّره بعض المصادر التاريخية.
 

لقد كان "أيبك" يريد من هذا الزواج تقوية مكانته السياسة في الشرق الأدنى، فلئن تحالف المماليك البحرية الفارّين مع أيوبيي الشام، فهو بهذا الزواج سيتحالف مع رجل له دولة مستقرة خلفهم في الموصل وشمال العراق وهو الملك "الرحيم بدر الدين لؤلؤ"، فإذا أراد الأيوبيون أن يعيدوا فكرة الهجوم على مصر فسيفكرون أكثر من مرة بسبب هذا الحلف المصري الموصلي الذي أُقيم بهذا الزواج السياسي.
 

خافت "شجرة الدر" أو غارت، لكنها عزمت على قتل "أيبك"، وبدأت في مشاورة بعض كبار رجال الدولة مثل "صفي الدين إبراهيم بن مرزوق" وهو رجل كان مقرباً من الدولة المملوكية والأيوبية، وعرضت عليه أن يوافقها في مقابل إعطائه الوزارة والحكم، لكنه زجرها ونهاها عن هذا الفعل المنكر، ولكنها لم تُصغ إليه، واتفقت مع عدد من صغار المماليك الفارسية وخدم القصور من المماليك الصالحية، كانت عدتهم خمسة على أن يقتلوا "أيبك" إذا دخل الحمّام في داره في قلعة الجبل.
 

وكان "أيبك" في ذلك الوقت قد وصلت إليه أطراف ما يجري من مؤامرات، فخاف على نفسه وانتقل للعيش في مناظر اللوق في أسفل القاهرة، فأرسلت إليه تسترضيه وتطلبُ عفوه، فخُدع وذهب إلى حتفه، وقتله هؤلاء الخدم والمماليك في 23 ربيع الأول سنة 655هـ.
 

واستدعت "شجرة الدر" كلا من "إبراهيم بن مرزوق" والأمير "جمال الدين أيدغدي العزيزي" من كبار الأمراء العزيزية الذين انضموا من قوات الناصر الأيوبي إلى الجيش المملوكي، فلم يوافقاها على ما صنعت، ورفض "العزيزي" أن يتقلّد السلطنة، فأرسلت شجر الدر إصبع المعز وبه خاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير كي يقبل بالسلطنة فلم يرض بذلك.
 

وبدأت أخبار مقتل "أيبك" في التسـرب في اليوم التالي، وحاول المماليك الصالحية أن يحموا سيدتهم لأطول وقت ممكن فنقلوها من دار السلطنة بالقلعة إلى البرج الأحمر أحد أبراج القلعة المطل على جبل المقطّم، لكن المماليك المعزية كانوا أقوى، واستطاعوا أن يفتكوا "بشجرة الدر" عقب تولية الملك "المنصور علي بن أيبك"، وأرسلوها إلى أم علي زوجة "أيبك" وأم ولده، والتي أمرت جواريها أن يقتلنها بالقباقيب، فقتلت وألقوها من أعلى القلعة إلى خندقها فظلت في الخندق ثلاثة أيام حتى حُملت ودفنت في قبرها بالقرب من المشهد النفيسي.
 

انتهى بذلك عصـر "أيبك" و"شجرة الدر" بعد أن دام ست سنوات تقريباً، وكانت المماليك المعزية قد قويت مكانتهم في الدولة عقب هروب عدد كبير من المماليك البحرية إلى الشام.

وثمة رواية ينقلها "أبو بكر الدواداري" المؤرخ صاحب موسوعة "كنز الدرر وجامع الغرر" عن أبيه عن جده، وكان شاهد عيان يحكي فيها أن واحداً ممن اعتقلهم "أيبك" من المماليك وعددهم تسعة عند "أم البارد" -بالقرب من الصالحية في الشرقية الآن- واسمه "أيدكين الصالحي" قد أوقع العداوة بين "أيبك" و"شجرة الدر"، وكان "أيبك" قد اعتقلهم مخافة أن يكونوا قد تحالفوا مع الأيوبيين والمماليك البحرية من زملائهم المرابضين في العوجا -بين أرسوف والرملة بفلسطين-، وقد كان التحفز بين الفريقين لا يزال مستمراً، فكان هذا أكبر أسباب قتله.
(محمد شعبان أيوب: تاريخ المماليك ص65، 66)
 

انتهى بذلك عصـر "أيبك" و"شجرة الدر" بعد أن دام ست سنوات تقريباً، وكانت المماليك المعزية قد قويت مكانتهم في الدولة عقب هروب عدد كبير من المماليك البحرية إلى الشام، فاتفقوا وعلى رأسهم نائب السلطنة "سيف الدين قطز" على تنصيب "علي" ابن سيدهم الملك المعز "أيبك" سُلطانا على مصـر، ولقبوه بالملك المنصور، وحدثت بعض المنازعات السـريعة بين المعزية والصالحية في الأيام الأولى من سلطنة المنصور "علي"، سرعان ما قضـى عليها "سيف الدين قطز".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.