شعار قسم مدونات

التسول وفلسفة المجتمع

التسول

الشارع إسفنجة تمتص عديد القصص المشوقة والمغامرات والحكايات التراجيدية، يستعمله البعض كوسيلة للتنقل من مكان إلى آخر، ويستعمله البعض الآخر للترويح عن النفس من شدة ضغط العمل وروتين الأماكن الضيقة. لكن هناك فئة من العامة تقتات على مستعملي الشارع وتجني منه أموالا طائلة لا حسيب عليها ولا رقيب، إنهم المتسولون.

تنطلق القصة بأن يصطنع كل فرد من هذه الفئة شيئا يمكنه من جذب الناس إليه ويقنعهم بصعوبة وضعيته والمأساة التي يعيشها، ويريهم أوراق العلاج باهظ الثمن، ويطلق العنان لدموعه الجاهزة للسيلان، ويسرف في الدعاء حتى تنصهر الضحية في ذلك الجو التعيس وتشعر بضرورة التنازل عن بعض المال لمساعدة الطالب الذي استطاع إيقاظ ضمير الخصم النائم منذ سنوات، واستعطافه والإيقاع به.

الأموال المتأتية من هذا النشاط تنتقل من يد إلى أخرى دون أن تساهم في دفع رسوم جبائية للدولة و تستقر بخزينة المستفيد منها دون أن تحرك الدورة الاقتصادية.

يدخل المتسولون جحورهم بعد يوم حافل من الكلام والمشي والركض، فلا هم مرتاحون راحة الأثرياء ولا هم قنوعين قناعة الفقراء.

إن انتظار المصائب أقسى شيء على النفس وأكثر وقعا من المصيبة ذاتها، لذلك فالمتسولون لا ينتظرون الشرطة لكي لا تبدو على وجوههم ملامح الرعب والخوف، بل يظهرون الحزن للناس و يفتعلون الإعاقة ويقصون مقاطع سخيفة يروونها للمارة إلى حين مجيء رجال الأمن وتطويقهم للمكان بأمر من السلطة. عندها يصبح الكبير صغيرا، وصاحب الإعاقة عداءا، ويختلطون بالمارة وينصهرون فيهم وكأن شيئا لم يكن.

لقد أنتجت الصعوبات الاجتماعية هذه الفئة من العامة، فئة يقول الناس بأنها متحيلة (من الاحتيال)، وتقول السلطة بأنها تؤثر سلبا على المشهد السياحي للبلد، ويقول المتسول بأن الزمن قد ظلمه والمجتمع يحاول نبذه، وهو غير قادر على مجابهة متغيرات الحياة دون مال، والمال صعب المنال.

يعتبرون أنفسهم مجموعة من المستضعفين الذين لفظتهم الأقدار على شاطئ المعاناة والخصاصة، لذلك فهم يحاولون دوما تبرير نشاطهم ووضع أسس له، وسط إشفاق البعض وقسوة البعض الآخر.

إن الحياة مثل الزلزال الذي يخلف إثر كل رجة حطاما ومأساة وحسرة، كذلك الحياة، تخلف منعرجاتها ظواهر يتبنى المجتمع بعضها وينفر البعض الآخر، مثل نفره للمتسولين.

عند اختفاء شمس الغروب وراء المباني الشاهقة، تشتعل أضواء الشوارع الواحد تلو الآخر، ويدخل المتسولون جحورهم بعد يوم حافل من الكلام والمشي والركض، فلا هم مرتاحون راحة الأثرياء ولا هم قنوعين قناعة الفقراء. يجتمعون لعد الأموال التي جمعوها ويخفونها بطرق غريبة غير واثقين في شطحات المستقبل.

تتذمر العامة كثيرا، ووراء التذمر أسباب منطقية، فهم يتعرضون كل يوم وساعة إلى مضايقات تكاد تعكر صفو حياتهم اليومية، فهم في غنى عن هؤلاء لأن الروتين، والمشاكل تكفيهم لتمضية الليل والنهار وهم يفكرون في سبل للراحة.

لكن تبقى المعادلة في المقابل غامضة، فلا يمكن القضاء على هذه الظاهرة إلا بمعالجة أسبابها، لأنه إذا عرف السبب بطل العجب، وإن عالجنا المرض ستختفي العوارض بكل تأكيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.