شعار قسم مدونات

أكذوبة العمل التطوعي

blogs-العمل التطوعي

ظلّت تِلك التعاريف الأكاديميّة التي طُبِعت في ذاكرتنا تردعنا عن الإقدام على ذلك العمل، وطالما كان الردّ بجُملة "شو جابرك" هو أول الحُجَجِ لمَنْعنا من دخوله.. قبل أن نَعِيَ وبعد التجربة أنَّنا ندخل ذلك العالم عن سَبْق الإصرار والترصّد دون معرفة ما يُخبِّئه لنا من الجمال والروعة.
 

بعد 20 عام قضيّتها في هذه الحياة أربعةٌ منها في رَيّعان الشباب، أفضيّتُ إلى استنتاجٌ وحيد هو أنَّنا جِيلٌ كَسول، شابٌ في المظهر عجوزٌ عشرينيّ في الجوهر، مهملٌ في حياته، دراسته، واجباته المنزليّةِ والاجتماعيّة، يبقى كذلك إلى أنْ يدخل العمل التطوعي فتبدأ حياته بالانقلاب رأساً على عقب.
 

في داخل قلبك قناةُ اتصالٍ مُغلقة تربط بينه وبين الله عزَّ وجلّ، أصلحها واعتنِ بِها جيداً واترك ما تبقى وراء ظهرك فالأجر نحن آخذوه رُغماً عنهم.

العمل التطوعي هو المجهود الذي يبذله الإنسان سواءً أكان ماديّاً أم جسديّاً أم فكريّاً باختيارٍ مَحض ودونما انتظارٍ لأجر أو مردود ماديّ بل يهدف إلى خدمة المجتمع وتعزيز قِيَم التكافل الاجتماعي فيه. هذه التعاريف لرُبّما كانت أحد أسباب نُفور الشباب عن العمل التطوعي بدءاً من رَبْطه بالمجهود والتعب.. وختاماً بالزهد والورع الكاذب الذي يقتضي أنْ العمل التطوعي لا أجر أو مردود فيه.
 

بعيداً عن كل التعقيدات السابقة فالعمل التطوعيّ هو عملٌ تقوم به خدمةً لنفسك لا لأجل الآخرين، فهو أشبه بدائرة مغلقة تُقدِّم فيها من وقتك ومن جُهدِك فيعود عليك بالفائدة والمنفعة، وهنا تَكْمُن روعةُ هذا العمل بكونه نابعاً من داخل الذّات الإنسانية بدافِع الرغبة في تحقيق الإنجاز.
 

عندما تدخل ميّدان العمل التطوعي خاصةً في الأيام الأولى ستشعر بأنّ الطاقة الكامنة والمختزنة في داخلك على وشَكِ الانفجار، وتبدأ في تلك الحسابات المُعقدة والصراع الداخليّ "أنا بتطوّع عشان أستفيد، عشان أعبّي وقت فراغي، ولا أنا بتطوّع للمساكين والأيتام والأرامل، يمكن عشان صحابي بشاركوا وأنا بكون معهم، جواب نهائي حتى أغيّر مجتمعي".
 

أيامٌ عديدة وسيُدرك المتطوعُ بعدها أنّه لن يُغيّر من مجتمعه شيئاً، وهذه ليست دعوى للتشاؤم ولكن دعوى للفهم الصحيح السليم فلَنْ تَصِل للطابق العاشر دون أن تدوس على الدرجة الأولى، والدرجة الأولى لتغيير هذا المجتمع هي أنت "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ". وبعُمر 20 عام، بمُدّة لا تتجاوز 3 أعوام في العمل التطوعي، وبأصابعي العشر، أبصم وأجزم بأنه لا يوجد هنالك عمل قادر على تغيّير النّفس البشرية للأفضل مثل العمل التطوعي ولكن في بيئة مناسبة.
 

مجالات العمل التطوعي:
سَئِم مِنّا ذلك اليتيم الذي نأخذه مراراً وتكراراً ليفرح ساعات معدودة ويتناول وجبة غداء تَليها حقيبةٌ مدرسيّة أو لُعبةٌ بلاستيكيّة ويعود في نهايةِ اليوم إلى بيته مُثقلاً بأوجاعه، سَئِم مِنّا ذلك الحائطُ الذي تزاحمت عليه المُبادرات الجامعيّة فقامت بدهنه واحدة تلو الأخرى . العملُ التطوعيّ الخيري عملٌ مهم مفيد لا بُدّ منه، لكن يجب أن نرتقي به خطوة الى الأعلى فمع ارتفاع التحديّات المجتمعيّة المُحيطة واتساع الفَجَوات أصبحنا بحاجة مُلحّة إلى عمل تطوعي شبابي تنموي ومؤسسي. فالمبادرات الفرديّة تشعُّ جمالاً وتُعبّر عن شباب اختزل بين أضلعه همّ أمّة يسعى إلى خدمتها، لكنّ هذه المبادرات تفتقر للخبرة والدعم الماديّ والاستمرارية فما تلبث أن تنفضّ بعد مدة قصيرة من إنشائها.
 

فوائد العمل التطوعي:
بالعودة إلى تلك الأكذوبة وسعياً وراء نفيها، فالعمل التطوعي هو العمل الوحيد الذي تتلقى فيه جميع أشكال الأجر والمردود حتى المردود المادي، فلا ضرَرَ مِن تقاضي مردود ماديّ بسيط "بدل مواصلات أو جهد إضافي أو بدل وقت طويل مبذول في العمل" هذا المبلغ -المتفق عليه مسبقاً- لَنٔ يُقلّل من قيمة العمل أو من أجره الديني.
 

"إذا كان الشغل مجهدة فإنّ الفراغ مفسدة" وحتى تعلموا مفسدة الفراغ انظروا إلى مراكز تأهيل الأحداث ومراكز علاج المدمنين لتعلموا أيُّ شرٍ حجبه العمل التطوعي عنّا هنا!

أولاً: ابدأ أول الفوائد ممّا ختمت به بأنْ المردود الماديّ لا يُذهبْ أجر العمل التطوعي، فمثل هذه الأمور الشائكة تقضّ مضاجع الشباب المتطوع، فما ينفكّ القاعدون خلف شاشاتهم عن رَشْق المتطوعين بحجارة اللوم ووابلٍ من الاتهامات، فتارةً يتهمونَنَا بالرِياء بدعوى الكاميرات والتصوير.. وتارةً يتهمونَنَا بالمُراهقة في العمل التطوعي فنوصف ب "شويّة شباب همّهم يتعرفوا ع بنات" ويطال الذمّ العمل التطوعي نفسه ليصبح عملاً مختلطاً منفلتاً من كل الضوابط وكأنه للتسلية والمرح.

لكلِّ متطوعٍ يَنظر إلى هذه التُهم الباطلة نظرةَ مَساس لكرامته الشخصيّة، لكل متطوعٍ يُجادل مَنْ يُلقي هذه التُهم دِفاعاً عن نفسه وزملائه، أصغِ إليَّ جيداً ودعك منهم.. في داخل قلبك قناةُ اتصالٍ مُغلقة تربط بينه وبين الله عزَّ وجلّ، أصلحها واعتنِ بِها جيداً واترك ما تبقى وراء ظهرك فالأجر نحن آخذوه رُغماً عنهم.
 

ثانياً: دائرة الخِبرات والمعارف الشخصيّة التي تتوسع خِلال العمل التطوعي، الكبير والصغير، المتزوج والأعزب، المهندس والطبيب والمحامي والمحاسب وغير المتعلّم الذي ربّما يَكون أفضلهم، التعاملات والاحتكاكات المُباشِرة مع كُلِّ هذه الفِئات ستؤدي بك إلى نُضوج عقلي سريع ناهيك عن جُسور الودّ والترابط بين المتطوعين أنفسهم حتى أصبح الواحد منّا يرى فيهم أُسرة ثانية يساندونه في أفراحه وأتراحه.
 

ثالثاً: استثمار وقت الفراغ وإشغال النفس بما ينفعها، يقول ابن الخطاب رضي الله عنه "إذا كان الشغل مجهدة فإنّ الفراغ مفسدة" وحتى تعلموا مفسدة الفراغ انظروا إلى مراكز تأهيل الأحداث ومراكز علاج المدمنين لتعلموا أيُّ شرٍ حجبه العمل التطوعي عنّا هنا!
 

المجد لمِنْ ابتلت ثِيابُهم ولَفَحَت الريح وجوههم وهم يُوصِلون "الحرام أبو 10 دنانير" لمن سينام ليلته مطمئناً لا يئنّ من شِدّة البَرد، المجد لمن وَهَبَ حياته للعمل التطوعي

رابعاً: أن تُدرّب نفسك على العطاء مبكراً وأن تفهم معنى العطاء بشكلٍ صحيح، تُدرِّب نفسك على العطاء مبكراً حتى يكون لمَنْ يستحق من رِزقك غداً نصيب، وأن تفهم معنى العطاء بشكلٍ صحيح لتنفي أكذوبة الرياضيات التي مفادها أنّ الخمسة تساوي الخمسة، لا يَستويان أبداً فمَنْ كان يملك تلك الخمس دنانير وقدّمها مُخلِصاً ليس كمن كان يملك ألفاً وقدّم منها خمساً، مَنْ لا يملك وقتاً ليتطوع ويُحاول جاهِداً خلق الوقت ليس كمن يكون عمله قتلاً للوقت فقط.
 

ختاماً: ذُروة فوائد العمل التطوعي تَكمُن في تطوير المهارات الفرديّة والقُدرات الشخصيّة عند حُضور المحاضرات والنَدَوات حتماً ستشعرون أنّكم على وَشَك تغيّير أنفُسِكم وما حولكم والعالم بأسره، لكنكم ستُغادرون تلك القاعة كما دخلتم بَلْ رُبّما بقليلٍ من الإحباط الإضافيّ لأنكم لا تعلمون من أين تبدؤون.
 

ميدان العمل التطوعي هو البداية..
المَجْدُ لمَنْ يعملون تحت الحرِّ صيفاً يُبرِّدون على المارةِ عَطَشَهم بقطراتٍ من الماء، المجد لمن أسعدوا ذلك الطفل سويّعات ولم ينسَوه بعدها، المجد للصائمين القائمين على توزيع طُرود الخير لمُستحقيها، المجد لمِنْ ابتلت ثِيابُهم ولَفَحَت الريح وجوههم وهم يُوصِلون "الحرام أبو 10 دنانير" لمن سينام ليلته مطمئناً لا يئنّ من شِدّة البَرد، المجد لمن وَهَبَ حياته للعمل التطوعي فأصبح متطوعاً حتى في بيته.. "المجدُ كُلّ المجد لِمَنْ ارتضى العمل التطوعي سبيلا"

مُمتِعَةٌ هي أُكذوبة العمل التطوعي، لا تُخبِرونا صِدقها، سنكتشفه بأنفسنا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.