شعار قسم مدونات

الحروب الصليبية.. كما لم نشاهدها من قبل!

Blogs - Crusades

من منّا لا يعرف الحروب الصليبية وصلاح الدين الأيوبي.. لا أحد، لا أتخيّل أحداً لا يعرفه ولكن الكارثة كُل الكارثة أن كثيرون منّا لا يعرفون شيئاً عن هذه المرحلة إلا أن القدس وقعت في أيدي الصليبيين؛ فظهر قائدٌ عظيم يُدعى صلاح الدين ليُحررها منهم في حطّين وتنتهي القصّة!
 

هذه المرّة وعلى شاشة الجزيرة الوثائقية، بدَت الحروب الصليبية مُختلفة جداً عن أوهامنا وتصوّراتنا التي لا يحلو لها إلا أن تتخيل صلاح الدين وكأنه القائد الذي نزل من السماء على حين غفلة من المُسلمين ليحرر لهم القُدس، بلا حول منهم ولا قوة، فالحكاية في واقع الأمر تطول لأكثر من 200 عام ولهذا تُسمى حُروب لا حرب، وفيها تفاصيلٌ أكبر من أن تُحصى في 4 أجزاء وثائقية، إلا أن الجزيرة فعلتها وقدّمت لنا خُلاصة هذه المرحلة المفصليّة من تاريخنا بشكل فريد جديد!
 

مُداخلات أساتذة التاريخ قويّة جداً، وأغلبهم يمتلك حضوراً متألقاً أمام الكاميرا ويتحدثون بلغة بسيطة سلسلة قريبة من المشاهد، مع طرائف مثيرة.

بعيداً عن المُسمى، فإن الجُزء الأول "الصدمة" لم يكن صادماً كثيراً، بل إن الكثير مما قيل فيه يبدو مألوفاً ومقبولاً، ولكن لا جدل في أن طريقة العرض مع الاعتماد على المشاهد التمثيليّة والتأثيرات السينمائية كما المؤثرات الصوتيّة المُنتقاة بعناية لتشكل لنا الصراع في طابع موسيقي، كُلها جديدةٌ وتستحق الثناء، بيد أن التناول كان مُنحازاً لجماعة "التفسير المادي للتاريخ" على حد قول بعض المُشاهدين، فقد كان هذا الجُزء مُكدساً بمعلوماتٍ وآراء أساتذة التاريخ ممن حاولوا التأكيد أن الأطماع في الواقع اقتصادية لا دينية، وسواء كان هؤلاء على حق أم لا، فإننا لن نتخلف في أن المجزرة التي حدثت في القدس كانت بشعة جداً، كما تم تصويرها بإبداعٍ في هذا الجزء، كما أن آثارها لا تزال حتى اليوم باقيةٌ في المثل الفلسطيني القائل "وصل الدم للركب".
 

الصدمة كُل الصدمة، كانت في جزء "الصحوة" حيث يبدو واضحاً وجلياً أن صلاح الدين لم ينزل من السماء، وأن القدس لم تتحرر فجأة، بل سبق ذلك إعداد لأكثر من 100 عام شارك فيه المُجاهد مودود الذي هزم الصليبيين في معركة "صنبرة" قرب طبريّة ولكنّه قُتل على يد "الحشاشين"، ليكمل عماد الدين زنكي الطريق من بعده بتحرير الرُّها في "ليلة الكرسمس" ثم نور الدين زنكي الذي جهّز المنبر الذي ستخطب من فوقه خُطبة النصر في المسجد الأقصى بعد التحرير.

ولا ننسى كيف أبدع المُخرج في إبراز دور المساجد في هذه الصحوة من خلال مشهد تمثيلي مُعبّر، يظهر فيه الشيخ الهروي وهو يدخل على المُسلمين في أحد مساجد بغداد في نهار رمضان فيضع أمامه شيء من الطعام وكأنه يتعمد الإفطار من باب الاستفزاز، فتثور جموع المُسلمين لإفطار الشيخ، مع أنها نفسها تسكت عن الدماء التي وصلت "حتى الركب" في القدس! 
 

يكفينا أن تذكّرنا السلسلة بأن الحروب الصليبية لم تنتهي إلى اليوم وإن كانت اليوم تظهر في أشكال استعمارية أخرى كالاحتلال الصهيوني لفلسطين والغزو الأمريكي للعراق.

لعل الذي شاهد الفيلم الأمريكي "مملكة السماء" لن ينبهر كثيراً من الجزء الثالث "الوحدة" والمشاهد التمثيلية في معركة حطيّن مثلاً وغيرها من المشاهد التي يبدو واضحاً أن فريق الجرافكس الذي أبدع في مواضع عدّة في الفيلم، لم يُبدع في المؤثرات البصريّة المتعلقة بفكرة "نسخ الجنود" المتبعة في الأفلام عادةً، وهي لا تعكس الرهبة التي نراها في أفلام سينمائية تاريخية -إذا أردنا الحديث عن معايير عالمية-، وإن كان لا بُد من ملاحظة أخرى فهي أن القبّة "النصف بيضاوية" التي ظهرت في معركة تحرير القدس لا تُذكرنا لا بقبّة الصخرة ولا بقبّة الجامع القبلي.
 

هذا لا يعني أن الجزء كان سيئاً، فمُداخلات أساتذة التاريخ قويّة جداً، وأغلبهم يمتلك حضوراً متألقاً أمام الكاميرا ويتحدثون بلغة بسيطة سلسلة قريبة من المشاهد، مع طرائف مثيرة كذكر أن "الأمهات في أوروبا كانت تخيف أطفالها المشاكسين بقولهن "اسكت أو أنادي لك صلاح الدين".

هذا الجمع بين المشاهد التمثيلية والأساتذة الخُبراء مع الأخبار والطرائف يذكرنا بجمال نظريّة "Histotainment" التي تجمع بين "التاريخ" و"التسلية" والتي تستخدم في الكثير من الوثائقيات التاريخية العالمية.

أقوى ما في الجُزء الأخير "التطهير"، ليس تطهير الصليبيين فقط عن بلاد الشام جميعاً على يد بيبرس ومن تبعه من المماليك، ولكنه تطهير عقولنا من فكرة أن التاريخ مُجرد كلام فارغ و"خراريف"، ويكفينا أن تذكّرنا السلسلة بأن الحروب الصليبية لم تنتهي إلى اليوم وإن كانت اليوم تظهر في أشكال استعمارية أخرى كالاحتلال الصهيوني لفلسطين والغزو الأمريكي للعراق، إلا أنها مستمرة وقد أشار أكثر الأساتذة إلى الكثير من التشابهات بين فترة الحملات الصليبية وبين ما نعيشه اليوم، فالقدس لا تكون ضعيفة إلا إذا كانت "الشامصر" ضعيفة، وأن النصر لا يكون قبل إعادة ترتيب أوراق البيت الإسلامي الداخلي، كما أن الصحوة الحقيقة لا تبدأ من الحُكام بل من الشعوب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.