شعار قسم مدونات

الأكثريّة (1)

blogs - نواب

يمكن وصف السياسة بأنّها عمليّة صناعة أكثريّة، وتتضمّن هذه الصناعة وعي الذوات ابتداءً بنفسها كأكثريّة، أو منتمية إلى أكثريّة ما، وهذا الوعي بدئيّ متعيّن ومتخيّل، له شروط ومقدّمات اجتماعيّة وثقافيّة ولغويّة، راهنة وتاريخيّة، يتّم تعزيزه أو التذكير به. وثانويّ مكتسب يجري تصنيعه وتطويره وتأطيره وصيانته، استنادًا إلى البدئيّ، وليس انفصالًا عنه بالمرّة، ويخضع لشروط الراهن ومتغيّراته السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. كما وتقتضي هذه الصناعة التعريف بآخر، والتعريف بعدوّ أو بخصم، عبر جدل مستدام فاعل ومنفعل، ممّا يساهم أكثر في تأطير الذات السياسيّة في السياق المطلوب، الذات السياسيّة الفراديّة أو الجمعيّة، ويساهم بصيانتها على المدى البعيد.

 

إنّ الديمقراطيّة ستتوقف عن العمل، مثلها مثل الديكتاتوريّة، كنظام سياسيّ إذا ما قلّت الأكثريّة المقتنعة بشرعيّتها وفاعليّتها.

هذه الصفة أو الوظيفة للسياسيّ هي واحدة مضافة إلى أخريات يحتملها حقل السياسة، وهي مدمجة في كلّ محاولات تعريفها الكلاسيكيّة والمحدثة. وليس المقصود هنا بالأكثريّة فقط تلك الأغلبيّة الحزبيّة في النظم السياسيّة الحديثة، أو أكثريّة عرقيّة أو دينيّة ما، وإنّما المقصود قبل ذلك كمقدّمة هو توّفر أكثريّة ما -ضمن جملة متغايرة المحتوى من المحددات-  تقرّ ب "قواعد اللعبة"، أو تسكت عنها حين لا تقرّ بها.

 

فالأكثريّة في الدولة الفرنسيّة على سبيل المثال، ليست هنا هي اليمين أو اليسار، بل هي المجموع الذي ارتضى لنفسه هذه الأرض وهذه الدولة وهذا الدستور وهذا الشعب وهذه القيم، بكلّ ما في ذلك من متخيّل ومتعيّن، وهو المتفّق على نظامها الديمقراطيّ العلمانيّ، وهو بالضرورة على سبيل المثال هنا "غير المسلم" كشرط لتعريف كلّ ذلك، بمعنى أنّ السعي لبناء أكثريّة في فرنسا لا يتضمن كضرورة ملّحة، ولا كضرورة، إلّا ادعاءً، إدماج المسلم في السياسيّ كفاعل، بل، ربّما يتضمّن نقيض ذلك تمامًا.

 

وهذا معناه، كمثال فقط، أنّ الديمقراطيّة ستتوقف عن العمل، مثلها مثل الديكتاتوريّة، كنظام سياسيّ إذا ما قلّت الأكثريّة المقتنعة بشرعيّتها وفاعليّتها، أي، إذا صعدّت قوى مناهضة للديمقراطيّة ضمنًا أو صراحة، أو تتبنى على الأقل طرائق أو مذاهب للسياسيّ أو الأخلاقيّ يخرق مقوّمًا واحدًا أو أكثر للديمقراطيّة، أو قد يقود إلى ذلك.

 

خلل آخر يتهدد الديمقراطيّة، وهو خلل فراديّ-تقنيّ، له علاقة بثنائيّة الفرد-الذات، والتذوّت السياسيّ؛ وهو الفردانيّة الصرفة، حيث لا يمكن النهوض بالسياسيّ دون ذات سياسيّة فراديّة وجمعيّة متداخلتين ونشطتين.

فلو افترضنا جدلًا صعود المسلمين كقّوة سياسيّة فاعلة في بلد ليست أكثريّته مسلمة، فإنّ الديمقراطية لن تستوعبهم إذا كانوا غير ديمقراطيّين، أو كانوا يتبنون ما يخرق مبادئ ديمقراطية-ليبراليّة أو ديمقراطيّة-علمانيّة، وأكثر منه، هي لن تستوعبهم حتى لو كانوا ديمقراطيين تمامًا، لأنّ صعودهم سيهدد مقوّمات أكثريّة قبْليّة، أو هوياتيّة أو جوهريّة، موروثة أو مكتسبة، وبالتالي سيهدد الكيان السياسيّ العام، يهدد الدولة بما هي توّهم واعتبار قانونيّ، وبما هي منظومة من مؤسسات إدارة الشأن،  حيث قد يدفع في النهاية إلى فضّ الإجماع على الديمقراطيّة، أي، إنقاص الأكثريّة التي ترى شرعيّة وفاعليّة هذا النظام حدّ إحالتها أقليّة بمعنى ما.

 

بهذا المعنى، بالمناسبة، يُشار اليوم، إلى خلل آخر يتهدد الديمقراطيّة، وهو خلل فراديّ-تقنيّ، له علاقة بثنائيّة الفرد-الذات، والتذوّت السياسيّ؛ وهو الفردانيّة الصرفة، حيث لا يمكن النهوض بالسياسيّ دون ذات سياسيّة فراديّة وجمعيّة متداخلتين ونشطتين. ولذلك مع أنماط الحياة والتفكير الحديثة، وتراجع مستوى المنخرطين في سلاسل العمليّات الديمقراطيّة الكثيرة في البلد الاوربيّ معبرًا عنه بالمشاركة في الانتخابات، وفقًا لما تشير إليه إحصاءات مقارنة بين عقديّ التسعينات والراهن، حتى في بلد الاقتراع فيه إلزاميّ مثل بلجيكا؛ وهذا الخلل يهدد الديمقراطيّة حقيقةً لأنّه ينقص من شرعيّتها على المدى البعيد، وهذا يضاف أساسًا إلى نقص فاعليتها الأساسيّ كنظام سياسيّ.

 

لقد فصّلت في النقطة السابقة عبر هذا المثال لأنّ الأكثريّة/الأقليّة تُحصر خطأً على الدولة الحديثة وعلى النظام الديمقراطيّ، خلطًا مع حقيقة أنّها ترتبط بهما ارتباطا متمايزًا أكثر من سلفها، وربّما بأشواط. وحاولت أنْ أوضح من خلال المثال معنى الأكثريّة محل البحث والتعريف، وبالمقابل الأقليّة أو الأقليّات. وهي هنا أكثريّة ترتضي (صمتًا عن أو قبولًا ب) لنفسها هويّةً ومنهاجًا وشرعةً، وفق تعيّن وتخيّل للشعب والأرض والزمن، ويقتضي هذا الارتضاء قبول طريقة لإدارة الشأن العام والخاص، والعلاقات والحقوق والواجبات، فيما يخصّ الأفراد والمجموعات والمجتمعات والمؤسسات والأحزاب (الفرق والمذاهب والتيارات السياسيّة والأخلاقيّة والفلسفيّة والدينيّة)، وفيما بينها، ويتمثل كلّ ذلك في دولة.

 

وبهذا المعنى، لا يمكن تخيّل قيام واستقرار نظام سياسيّ، ولا دولة، ولا أمّة -وبالتاليّ صعود حضاريّ أو نهوض معرفيّ أو رفاه ماديّ وروحيّ-  دون توّفر أكثريّة مدّعاة أو حقيقيّة، معنويّة أو عدديّة، وسيادة (أو فرض الاعتقاد لـ) مفهوم عند الناس بأنّ الأمر بهذا الشكل مقبول ومهيمن. وهذا ينطبق على الديكتاتوريّة كما ينطبق على الديمقراطيّة، وعلى المدنيّة كما ينطبق على العسكريّة. وما عدا ذلك، برأيي، سيبقى في العمق مدركًا كحالة احتلال مهما طال به وبدولته الزمن، وسيرّد عليه في الوقت الحاسم ممّا نسميه انتقاليًّا بوصفه احتلالًا.

 

أجادل، في ضوء ذلك، وقبل الخلوص إلى الأفكار التالية فيما يتعلق بالأكثريّة/الأقليّة؛ أجادل بأنّ الأكثريّة/الأقليّة شكّلت لازمةً للسياسيّ منذ القدم، منذ "ما قبل الدول الحديثة"، وليست إشكاليّات هذا المركّب محصورة على أزمنة الدولة الحديثة فقط. وإذ يمكن الاتفاق وفق محددات يمكن توصيفها في سياقات مختلفة، على إنّ للسياسيّ في العصور الحديثة شأنًا أكثر تعقيدًا وتمايزًا، وإنّ للدولة كذلك الأمر ممّا صار الجدل فيه لازمة وظائف أكثر تشابكًا وهيمنة على ما قبلها؛ فإنّ هذا لا يلغي بالمرّة بأنّ السياسيّ والدولة لهما محدّدات ووظائف أساسيّة لم تختلف كثيرًا.

خذ العنف واحتكاره المطلق أو النسبيّ مثالًا. وبهذا المعنى، فإنّ وعي الناس ووعي أهل الأمر وأهل الدول وأهل الملل وأهل المذاهب والطوائف وأهل الأعراق بنفسهم ك أكثريّة/أقليّة، وسعيهم لصناعة أكثريّة وصيانتها، هو مسألة مندمجة (أو متضمنة) في السياسيّ والدولتيّ منذ العصور المتقدّمة والتي يمكن التحقق فيها من الهياكل والوظائف السياسيّة والدولتيّة الأولى.

 

إلى ذلك فإنّ هواية النقد للدولة الحديثة، على أهميّته ووحيويّته لجهة تجريد هذه الدولة من صَلاح أصليّ مدّعى ومقدّس وذلك عبر القول إنّها في هذا الشأن أو ذاك لا تقلّ ضلالًا عن سلفها؛ إنّ هذه الهواية كثيرًا ما تأخذ منحى حنين لما هو قديم -لا أخلاقًا فحسب بل بنّى ووظائف بما فيها من قصور واعتوار- بحيث يترك الانطباع برفع الإشكاليّة كليًّا من محتوى هذا السابق أو هذا القديم، حيث يشغلنا نقد الدولة الحديثة عن عزل ونقد الظاهرة نفسها. بوضوح، على سبيل المثال، يتّم مقاربة مشكلة الأكثريّة/الأقليّة، وما يتعلّق بها من آفة الطائفيّة عبر نقدٍ للدولة الحديثة والآفة الكولنياليّة، وبطريقة تبدو وكأنّها تلغي تمامًا أسبقيّة هذه المشكلة لهما، أصالة الصراع أساسًا، حيث لا يبدو لنا أنّها تقتصر على اختلاف تظاهراته أو شدّاته أو نطاقاته تبعًا لتبدل هياكل ووظائف السياسيّ والدولتيّ.

 

إنّ وعي الناس، جماعة من الناس، سياسيّة صرفه على سبيل الجدل، أو عرقيّة أو دينية أو مذهبية، بكونهم أكثريّة أو أقليّة، وتصرفهم على هذا النحو في الخاص والعام، هو أمر ثابت من حيث أصله وتكراره، ومن حيث كل الإشكالات المتولّدة عنه، من صراعات وعلاقات. ويمكن رصد ذلك بسهولة في كل النصوص التاريخيّة، الدينيّة وغير الدينيّة، وإنّ هذا الوعي هو وعي سياسيّ بالضرورة، وله انعكاسات سياسيّة.

 

في القرآن الكريم يدور الجدل حول الأقليّة والأكثريّة في كل حوارات الانبياء مع أقوامهم، وكان الردّ الثابت للنظم الاجتماعيّة والسياسيّة القائمة بأنّ أهل هذه الدعوة الجديدة هم أقلّة وشرذمة، وأنّهم أراذل وفقراء وقليلي حيلة وعديمي الوزن سياسيًّا واقتصاديًّا، هذا كان خطاب فرعون الواضح مثلًا "إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ"، وهذا يعني فيما يعني أنّ اضطهاد بني اسرائيل قد تمّ من جملة مبررات أخرى بوصفهم "أقليّة". وكذلك الأمر في كلّ حروب المذاهب والأديان والأمم المؤرّخة وغير المؤرّخة حيث يقوم ادعاء بأنّا نحن أكثريّة وأنّهم هم أقليّة، وتدرك جماعة من الناس ذلك وتتصرف على أساسه.

 

وإنّ أحد العوامل التي جعلت ذلك سائدًا في ذلك الوقت على نحو محدد، قد يختلف عن الحديث، هو اعتماد الحروب القديمة على العدد أكثر من اعتمادها على السلاح أو الآلة أو النار، وهذا الادعاء أو الحقيقة بأنّ أهل هذه الدولة أو هذه الأمة أو الدين أو المذهب هم الأكثريّة كان ضروريًّا لتحقق الردع أساسًا، بمعنى التمهيد أو التجهيز لمبدأ ولفرض السلطة القادرة على امتلاك العنف واحتكاره النسبيّ. وهذا معناه من منظورٍ معيّن توّفر كلّ مقولات الأكثريّة والأقليّة في السياسيّ، وتوّفرها في السياسيّ هنا بمعنى الأزمة والصراع كذلك، فالتوتر لم يكن ينفصل عن ذلك دومًا. وحيال هذا كانت تدرك أقليّةٌ ما ذاتها كونها اقليّة مضطهدة أو محترمة أو معزولة. وهذا الامر تم ترحيله بين نماذج الدول المختلفة، وصولًا إلى الدولة الحديثة، وخلال هذا الترحيل تغايرت تظاهراته وشدّاته ونطاقاته دون منحى واضح تمامًا حين النظر للكليّة.

 

في الجزء التالي من التدوينة سنناقش أثر الإحصاء وتطوّره في تعيّن وتأطر الأكثريّة/الأقليّة، والدولة، مع مناقشة جملة من الأفكار والمفاهيم الأخرى فيما يخص هذا المركّب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.