شعار قسم مدونات

جامعاتُنا.. صروحُ هدمٍ أمْ بِناء؟

blogs- الجامعة

ومنذُ الصِغَرِ وأنا أحلمُ بذلك اليومْ الذي تَطأُ فيهِ قَدَمايَ ذلك الصرحَ الشامخَ العظيم، بساحاتِه الواسعة، وبوَّاباتِهِ المُشْرَعةِ، وأبنيتِهِ الضخمةِ تلك، بتلكَ القاماتِ الرفيعة التي يتحدث عنها الناس بجلالٍ ووقار، بأولئك الطلبة أصحاب الاختراعات والإبداع، بذوي الهاماتِ المرفوعة، أصحاب الأقوالِ والأفعال، بالقُدُوات والقادة، كانوا لنا في طفولتِنا الوحيَ والإلهام، نعم؛ ذلك الصرحُ المُسَوَّرُ أشبهُ ما يكونُ بقطعةٍ من الجنّة، تتملَّكُنِي رغبةٌ شديدةٌ بأن أكون جزءً منه وفاعلًا فيه، مكانًا أنشُدُ فيه تحقيقَ أحلامٍ وطموحاتٍ لطالما راودتني في صِغَري لأجعلَ منها حقيقةً تُشهد وفِعلًا يُطَبَّقُ وذِكرى لا تُنْسى.
 

وكعادتِها الطفولة، وببراءتها المعهودة، لا تستطيعُ قراءة الواقع باضطراباتِه وتَقلُّباتِه، فتسرحُ في خيالاتٍ مثاليةٍ في فضائها الرحبِ والواسع، ولكنّ طفولتنا نضجت لتخلعَ عنْها ثوب المثاليّة ولترتديَ زِيَّ الواقع الذي يحدُّ كثيرًا من تلكَ الطموحاتِ والأحلام، وربّما يُبدِّلها أصلًا، لتمرَّ بطَوْرِ التحوُّلِ نحو رغبةٍ في الخلاصِ من ذلك الضغطِ الواقع عليك في ذلك السجن الصغير "المدرسة" ورغبةً أكثرَ بأن تطرحَ عنك ذلك الحملَ الثقيلَ "الثانوية العامة" الذي حمّلكَ إياه مجتمَعُك وتعانقَ الحريَّةَ حيثُ الانفتاحُ وحقُّ التعبير وتفجيرُ الإبداع واكتشافُ المواهب أو كَمَا يُخَيَّلُ لك.
 

تبدأُ المحاضراتُ بشكلٍ جادٍّ في الأسبوع الثاني، ويبدأُ معها الضياعُ في ظلِّ غيابِ منهجٍ واضح بيِّن، وفي ظلِّ ازدواجيّة اللغة التي تثقلِ كاهلَ الطلبة الذين أُسِّسُوا لغويًا بشكلٍ خاطئ

وبعدَ تعبٍ وكدّ يأتي ذلك اليومُ الذي تعانِقُ فيه حُلم الطفولة، وتروي فيه عطش الانتظار الطويل، صورةٌ على عَجَل، ثوانٍ ثمَّ تستلمُ بطاقةَ هُوِّيةٍ جامعيّة تكادُ تكونُ أقربَ إلى قلبكَ من شهادة الثانوية العامّة، هكذا تفكِّرُ لوهلة، ثمّ تمضي قاصدًا كُلِّيَّتكَ التي انتسبْتَ إليها، وأسوارُ ذلكَ الصرحِ العظيمِ تحفُّكَ من كل جانب، هذا هو "الحَرَمُ الجامعيّ"، سيخطُر ببالك الكثيرُ من الأفكار قبل أن تطأ قدمُكَ ذلك المكان، فالمُسمّى فيه إيحاءٌ قويٌّ سرعانَ ما يتلاشى كلّما طالَ مُكوثكَ في المكان، فلا حُرمةَ فيه إلا لأصحابِ الجاهِ والسلطان، والطالبُ فيهِ ضعيفٌ حتى يُعلنَ الولاء لأحد الجبابرة هناك، ولن تشفعَ لك أموالُكَ تلك التي أنفقتَ وكنتَ تظُنُّها ضمانًا، فلستَ إلا سهمَ ربحٍ لا يحقُّ له إلا أنْ يلينَ ويُطُوَّع، فإنِ اشتدّ عودُه كَسَرُوه، وكالعادة "الأمن" هو هاجِسُهم الأول، أو أداةُ البطْشِ والترهيب.
 

في فَصْلِكَ الأول تدفعُ قسطًا جامعيًا، وهو عبارةٌ عنْ مبلغٍ ماليّ جاهز دون تفصيلٍ وتوضيح، ثمّ بعدَ ذلكَ تكتشِفُ شيئًا فشيئًا أين يكونُ تصريفُ هذا المبلغ، مصاريفُ إنترنت ومرافق عامة وتأمين صحيٌّ ومصاريف أخرى في غالبها تهدفُ لاستنزافِ الطالب لأنّها غالبًا في حالٍ يُرثى لها، ويمرُّ فصلٌ كاملٌ ولم تقم باستعمال كلِّ هذه المرافق والخدماتِ إلا قليلًا.
 

في يومِك الأول ستكونَ منهمِكًا بالبحثِ عن قاعاتِ محاضراتِك، مشغولًا بكثير من الأفكارِ تحومُ في رأسكَ عن أحلامِكَ وطموحاتِك، عن انطباعِك الأول، عنْ كلِّ ما ترى حولك، حتى تصلَ القاعةَ لتصطدم بذلك الأستاذ المحاضر غارقًا في التعريف عن نفسِه، يَعرضُ إنجازاتِه وشهاداتِه، ويمجّدُ نفْسَهُ وكأنّه حديثُ عهدٍ بها، وآخرَ غزا رأسَهُ الشيبُ يبدو عليه التعبُ والإرهاق، ترتسُمُ الكشرةُ على وجه، يضعُ قواعِدَه وتشريعَه ويأخذُ الأسماء على عَجَل، وآخرُ تبدو في وجهه روحُ الشبابِ وغالبًا هو حديثُ عهدٍ بالتخرُّج بل بالمعاناةِ التي ستقبلُ عليها، يشحذُ الهمم والطاقات ويستجدي في الطلبة أملًا يلوح في الأفق أو.. رُبّما.
 

تبدأُ المحاضراتُ بشكلٍ جادٍّ في الأسبوع الثاني، ويبدأُ معها الضياعُ في ظلِّ غيابِ منهجٍ واضح بيِّن، وفي ظلِّ ازدواجيّة اللغة التي تثقلِ كاهلَ الطلبة الذين أُسِّسُوا لغويًا بشكلٍ خاطئ، ليخوضوا امتحانَ مستوى لغويّ للغة التي سيدرسون بها والذي لا يقيسُ مستوى احتياجهم الحقيقيّ للغة العلميّة الأجنبيّة، والتي تختلف عن اللغة الأكاديميّة، فلا يُسعفُ الطالبَ اجتيازه لذلك الاختبار بل إنّ عليه بذلَ جهدٍ كبير وذلك لأن مواد اللغة الأجنبية التي يدرسُها ليست على صلةٍ بلغة منهاجه العلميّة.

ويزيدُ الطين بلّة الاعتماد ُ على عرضِ الشرائحِ الإلكترونيّة الجاهزة المسحوبة "المسلوبة" من مواقع الشبكة العنكبوتية والتي يروِّسونَ بها أسماءهم وألقباهم ليبهروكَ بها، وغالبًا آليةُ الشرحِ منها هي فعليًا ترجمةٌ في كثيرٍ من الأحيان كترجمةِ جوجل، وقدْ يُستعاضُ عنها بمادة "PDF" تكون طويلةً ولكنها تُسْلَخُ خلال المحاضرة لتبدو سهلةً بسيطة لتزداد الأمور تعقيدًا في ظلّ غياب مادةٍ مُعدةٍ بجهد الأستاذ المدرس يكون قد أجمل فيها وأشمل كل ما يحتاجه الطالب من معلوماتٍ وفوائد.
 

واهمٌ من ظنَّ أن الجامعاتِ الحقيقيّة مكانٌ للتحصيل الأكاديميّ فحسب، بل هي مصانعُ الثورة والنهضة، والإعداد والتخطيط، لمواجهة تحديات المستقبل والنهوضِ بهذه الأمة

سرعانَ ما ينقضي الوقت، ويبدأُ امتحانك الأول بدقِّ الطبولِ تبشيرًا بقدومه، أولُ اختبارٍ لك، أمرُهُ يُثيرُ الرعبَ، وخاصةً أنّ الأساتذة يتحفظون على البوح بأي مظهر له، وكأنّهم يُعِدُّون مفاجأة الفصلِ، وكأنّهُ تكتيكٌ للانقضاض على الطلاب، بدلَ إعدادِهم وتجهيزهِم بما يلزم، وحين تخوضَ غِمارَه تجدُ نفسكَ في الغالبِ ضائعًا ما لم يكنْ لك ناصحٌ ومُعِين، ولكنْ على يقينٍ أنّ هذا الامتحان لا يُفاضلُ بينكَ وبين طالبٍ آخر ولا يعكسُ مستوى ذكائك بشكلٍ مُطلق ولا حتى مستوى التقصيرِ لديك، إنّما تُحدِّدُ الامتحاناتُ شيئًا واحدًا: طالبٌ يعرف كيف يدرسُ لامتحاناته فيتفوّق، وطالبٌ لا زال يبحثُ عن مجدٍ ضائعٍ بين رُكامِ الكتب به يتعلّق، تمامًا كالمعركة، ليس ميزانُ القِوى وحده الحكم والفيصل، بل ميزانُ الإعدادِ والتخطيط، وأن تنتصر، خيرٌ مِنْ أن تكون الأقوى.
 

ثمّ في فصلكَ الثاني ستسعى للانخراط في الحياةِ الجامعيّة بكافة أشكالِها المختلفة، هروبًا من ذلك الروتين القاتل والجمود الذَيْنِ عِشتَهما في فصلكَ الأول، وستجدُ نفسكَ مُندفعًا بشكلٍ تِلقائيّ نحو ما يُسمّى بالنشاطات اللامنهجيّة "غير أكاديميّة" والتي ستلمِسُ فيها التطوير والإبداع، ومع وقفةٍ على هذا المصطلح، فهذا اعترافٌ صريحٌ بأنّ نهْجَ الجامعات نهْجٌ مُتحجّرًّ لا يستوعب الإبداع والقدرات ولا يعتمدها منهجًا، إنّما يضعها في إطار قتْلِ المَلَل والهروب من الروتين، وستجدُ نفسَكَ مُقبِلًا عليها حتى على حسابِ محاضراتِك وواحباتِك أو أيِّ نشاطٍ أكاديميّ.
 

لا يسعُني إلّا أنْ أقول لكَ أنّهُ واهمٌ من ظنَّ أن الجامعاتِ الحقيقيّة مكانٌ للتحصيل الأكاديميّ فحسب، بل هي مصانعُ الثورة والنهضة، والإعداد والتخطيط، لمواجهة تحديات المستقبل والنهوضِ بهذه الأمة من وحل الجهلِ والتخلف، واللحاق بركب الحضارة والتقدم، فيها يُقدَّسُ كلُّ إبداع، وتُنَمّى كلُّ موهبة، ويُدْعَمُ كلُّ ناجحِ، فيها تُصان الأوطان والأعراض، ويُحفظُ للأمة عزَّتُها، هي حقًّا مصانعُ للرجال، فيها الأمانة والصدق، فيها الكفاءةُ والعملُ والمعرفة، ومنها يبدأُ التحرير.. كثيرةٌ هي التساؤلات التي تتزاحمُ في رأسي في ظلِّ هذا الواقع الذي نعيشُه، ولكنّ أحدها يُلِحُّ عليَّ في السؤال ويقول "جامعاتُنا.. صروحُ هدمٍ أم بناء"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.