شعار قسم مدونات

شرق المتوسط

blogs - writer

أعترف في البداية بأن إهمالي لأدب منيف وتأخر اطلاعي عليه كان، وبلا مبالغة، من بين أكبر الجرائم التي أرتكبها بحق نفسي، وهذا ما أحاول تداركه الآن، فتجربة هذا الأديب العبقري لا يمكن أن يمر عليها أي قارئ مرور الكرام.

 

بدأت رحلتي معه برواية قصة حب مجوسية، والتي تصادف اطلاعي عليها مع معايشتي لتجربة حياتية صعبة ساهمت في تفاعلي معها بشكل كبير لم تنجح أي رواية أخرى في تحقيقه، فأتبعتها بعالم بلا خرائط، العمل المختلف الذي كتبه منيف بالتعاون مع جبرا إبراهيم جبرا، وتأثري الكبير بالشخصية الغامضة لبطلة الرواية نجوى العامري، ولا أبالغ عندما أقول بأن كل من قرأ هذه الرواية سيتمنى مثل تلك الأنثى الفريدة لنفسه.

 

تصور الرواية تعامل الأنظمة القمعية مع سجنائها، وملاحقتها لهم حتى بعد مغادرتهم للسجن، ومطالبتها لهم بكتابة تقارير عن أصحاب الأنشطة السياسية المشبوهة

ثم واصلت الرحلة بقراءة كتاب رحلة ضوء، والذي يعد بالفعل إضاءة لمشوار كل روائي عربي، بتحليلها العميق والمتفرد للتجربة الروائية العربية بكل مميزاتها ونواقصها، ثم قرأت رواية شرق المتوسط موضوع تدوينتي اليوم، وتنتظرني طبعا باقي روائع منيف كخماسية مدن الملح (هذه بالذات تستلزم مزاجا خاصا ونفسا أطول من المعتاد) وثلاثية أرض السواد والأشجار واغتيال مرزوق وحين تركنا الجسر وسباق المسافات الطويلة وغيرها.

 

كتابنا لهذا اليوم هو رواية شرق المتوسط، والتي صدرت لأول مرة عام 1975، وتحكي لنا عن رجب، الشاب الثلاثيني والمعارض السياسي العربي المثقف، الذي يغادر السجن بعد خمس سنوات اضطر في نهايتها للتوقيع على تعهد ينبذ فيه أنشطته السياسية تحت ضغط توسلات عائلته، ليتناوب على سرد الأحداث مع شقيقته أنيسة التي تقدم وجهة نظرها هي، من خلال وصف معاناة العائلة بعد اعتقال رجب، والتغيرات النفسية والجسدية التي لحقت به بعد خروجه من السجن، وأيضا معاناة حبيبته هدى التي صبرت في البداية على لوعة الفراق وألم الانتظار قبل أن تخضع في النهاية لسطوة المجتمع، وتتزوج متناسية حبيبها المسجون وحياتها السابقة.

 

تحضر هنا أيضا معاناة الأم، تلك الشخصية التي برع الكاتب في وصف تفاعلاتها النفسية بدقة، كيف مزجت بين تشجيع الابن على الصمود والخوف الطبيعي عليه من الموت بسبب التعذيب داخل أقبية السجون، وكيف عافت الأكل وعصبت جبينها بالأسود منتظرة حصول فلذة كبدها على حريته.

 

تصور الرواية أيضا تعامل الأنظمة القمعية مع سجنائها، وملاحقتها لهم حتى بعد مغادرتهم للسجن، ومطالبتها لهم بكتابة تقارير عن أصحاب الأنشطة السياسية المشبوهة، مستخدمة أقذر الأساليب لإجبار المستهدفين على التعاون معها، حتى لو وصل الأمر إلى اعتقال أحد أفراد الأسرة ممن ليست له أية علاقة بالأمر، فبعد سفر رجب للعلاج في فرنسا، تقوم قوات الأمن باعتقال حامد زوج أخته أنيسة، مع إخطاره بأن خروج صهره متوقف على صمته وعودته إلى الوطن.

 

أما نهاية العمل فهي لوحدها تحفة مؤثرة، أفضل الصمت تاركا للقارئ مهمة اكتشافها بنفسه.

 

يمكننا اعتبار شرق المتوسط أول رواية أسست لما يسمى بأدب السجون في الوطن العربي، ورغم تميز أعمال أخرى ناقشت واقع السجن والاعتقال السياسي في الدول العربية كالقوقعة والسجينة وتزمامارت الزنزانة رقم 10 وتلك العتمة الباهرة ويا صاحبي السجن وغيرها، إلا أنك تشعر في كل مرة بأنها ولدت جميعها من رحم شرق المتوسط، ولا يمكنك سوى أن تخرج منها باستنتاج واحد: "لا أحد ينافس العرب في أدب السجون، لأن سجونهم أصلا لا مثيل لها في العالم كله!"

 

تعد هذه الرواية (وربما أعمال منيف ككل) مؤسسة لمرحلة ما بعد الكلاسيكية أو جيل ما بعد نجيب محفوظ في الأدب العربي، فقد استخدمت فيها تقنيات روائية حديثة نوعا ما آنذاك، لعل أبرزها تناوب الأصوات الروائية بين رجب وشقيقته أنيسة، وأيضا استخدام تقنيتي الاسترجاع والتذكر، والتي نعرف من خلالهما لمحات سريعة عن حياة رجب قبل الحدث العاصف الذي غيّر مجرى حياته، ونعرف منهما أيضا أسباب اعتقاله.

 

الإبداع والعمق الذي يميز حوارات ومقاطع هذا العمل المتميز قلما وجد بمثل تلك الغزارة في أعمال أخرى

كما أن الكاتب سيتجنب فيها تحديد وذكر أسماء المدن (وهي عادة دأب عليها في أعمال أخرى كعالم بلا خرائط التي اختلق فيها مدينة وهمية سماها عمورية)، مكتفيا بعبارة شرق المتوسط، والتي ترمز بطبيعة الحال لكل دول الشرق الأوسط المتشابهة في فظاعات سجونها، وقد قال منيف نفسه بأن مشروع تحويل رواية شرق المتوسط إلى عمل سينمائي أو درامي قد فشل لعدة مرات لهذا السبب، ففي كل مرة كانت ضرورة العمل المرئي تفرض الالتزام بالتصوير في بلد معين وهذا يتعارض مع روح الرواية التي تخاطب المنطقة بأكملها.

 

من عادتي أن تتزامن قراءتي لمثل هذه الأعمال مع كتابة أبرز اقتباساتها في مذكرة شخصية أحتفظ بها لمثل هذا الغرض، لكن الطريف فيما يتعلق بشرق المتوسط أنني وجدتني في وقت من الأوقات على وشك نقل الرواية كاملة إلى مذكرتي، فالإبداع والعمق الذي يميز حوارات ومقاطع هذا العمل المتميز قلما وجد بمثل تلك الغزارة في أعمال أخرى.

 

على أية حال، أنا لست من هواة المبالغة أو المغالاة، كما أن احتكاكي بأدب منيف مازال في بدايته، لكنني أتساءل في كل مرة أختم فيها كتابا له:

"لماذا لم يفز عبد الرحمن منيف بجائزة نوبل؟"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.