شعار قسم مدونات

العنف لا يولد البونبوني

blogs- حلب

منذ القرن السادس عشر والسابع عشر وانتهاءًا بعصر الأنوار الأوروبية والثورة الفرنسية والحديث غير منقطع في الغرب عن الطبيعة البشرية وماهيتها وأبرز سماتها الحاكمة من أجل بناء تصورات منضبطة عن المجتمع بأوسع معاني الكلمة والدولة وعلاقة كل منهما بالأخر.

 

أحد أبرز أولئك الذين كتبوا في الموضوع هو الفيلسوف البريطاني توماس هوبز. يبدأ هوبز نظريته من المجتمع القائم، وليس من مثالية. إذ يقول أن كل البشر دون استثناء يتمتعون بقدرات جسمانية وعقلية متساوية، أي أننا أمام مجتمع مكون من الأقوياء المتساوون وينبع من قلب هذه المساواة في القدرات، مساواة في الرغبة في تحقيق الأهداف والاحتياجات. فإذا ما وجد رجلين في مجتمع لديهم رغبة عارمة في نفس الشيء ولا يمكن أن يتمتعا به سوية، فإنهم يصيران أعداء وفي سبيل تحقيق الهدف فإنهم لا يمانعان في إيذاء أو القضاء على بعضهم البعض.

 

يرى هوبز أن الفطرة أو الطبيعة البشرية، طماعة وأنانية تريد تلبية احتياجاتها قبل كل شيء ومن ثم تسعى إلى المجد والشهرة. تحب الخير لنفسها وتكرهه للغير وتسعى لإخضاع الأخرين بكل السبل الممكنة وإنه إن لم تبرز قوة عظمى تدير أمر البلاد وتخضع كل هؤلاء الأفراد سيبقى العالم في حالة حرب، حيث أن الحالة الطبيعية التي تكون الطبيعة البشرية هي الحاكمة خلالها هي حالة الحرب، حتى تتدخل قوة اجتماعية وسياسية جديدة يقوم كل أفراد المجتمع بتسليمها كل قدراتهم العقلية والجسدية، وتقوم بعد ذلك تلك القوة باستخدام كل تلك القوى في إدارة المجتمع وتسييره وتقدير الجيد والسيء له، كمؤسسة خارجية لا تتبع المجتمع نفسه، ولا يحق لأفراد ذلك المجتمع أن يطلبوا استعادة قواهم بعد ما قاموا بتسليمها أو أن يعترضوا أو يبدوا رأيًا مخالفًا لرأي السلطة ولا يحق لهم أن يسألوا وهم يسألون عن كل كبيرة وصغيرة.

 

أعلم يا صديقي جيدًا، أن موازين الأرض ليست موازين السماء، وأن قوانين الأرض تسري على الجميع. فمضادات الطائرات بألف ألف ركعة مما يصلون، وأنهم لو دعوا الله ليل نهار ما توقف صاروخ روسي واحد.

رد على هذه النظرية أو الفرضية الفيلسوف الفرنسي، مونتسكيو. يقول مونتسكيو أن هذه الفرضية باطلة من افتراضها الأول الذي وضعه هوبز كحجر أساس لها. فالمشكلة ليست فيما بني على المسلمة الأولى بقدر ما هي في المسلمة الأولى ذاتها. إذ يحاجج مونتسكيو بأنه إذا كنا سنبحث عن أصل الطبيعة البشرية وسنجعلها أساسًا ينبني عليه مفاهيم رئيسية مثل المجتمع والدولة بعد ذلك فلنعد إلى أول رجل على وجه الأرض وليس إلى رجل موجود في مجتمع كامل له خصائصه، كي نصل إلى أصل الفطرة الإنسانية يجب علينا أن نبدأ بالإنسان الوحيد وليس بالإنسان الذي تشكلت ذاته وعلاقاته وهويته تبعًا للمجتمع الذي وجد خلاله. يكمل شارل لوي مونتسكيو نظريته فيقول أنه إذا أمكن تخيل رجل وحيد في هذا العالم، فإنه لا يمكن أن يكون أنانيًا أو شريرًا أو يسعى إلى المجد والشرف أو رجل يفكر في أمور فكرية أو في طبيعته، بل سيكون شخصًا ترتعد فرائصه من الخوق، رجل يسعى من أجل النجاة فقط، رجل يريد البقاء قبل اي شيء أخر. رجل مثل هذا سيكون متسمًا بصفتين اساسيتين، هما الضعف والجبن فقط. ولا يمكن له أن يفكر في مهاجمة شخص أخر.

 

عندما رأيت ردود أفعال الناس الغاضبة حد الانفجار على مجزرة أو الهولوكوست الذي حدث في حلب، توقعت أن يخرج الناس في اليوم التالي ينازعون حكامهم الصامتين بالعار والمذلة على الحكم باذلين في ذلك الغالي والنفيس أو توقعتهم يفجرون أنفسهم بيأس في كل ما هو روسي في أوطانهم، فما حدث لم يكن شيئًا عاديًا وليس حدثًا يحدث كل يوم ولا كل موسم، حيث تدمر مدينة مسلمة قصفًا دونما أن يحرك أحدهم ساكنًا.

 

أتذكر أنني كتبت ليلة المجزرة أيضًا "وأعلم يا صديقي جيدًا، أن موازين الأرض ليست موازين السماء، وأن قوانين الأرض تسري على الجميع. فمضادات الطائرات بألف ألف ركعة مما يصلون، وأنهم لو دعوا الله ليل نهار ما توقف صاروخ روسي واحد، وأن مقاتلًا لا يعرف عن الدين شيء يذكر خير من ألف عابد بينه وبين الله عمار، وأن صوت سلاحك هو لغتك المسموعة، وأن ألمك لم يخلق ليعلم به أحد سواك.. وأن المبادئ لا تنتصر لأنها مبادئ وأن أيًا كان ما تؤمن به فهو فلسفة فارغة ما لم يتبعها قوة تبطش. وإياك أن تصدقهم عندما يقولون أن كونك مظلوم منهزم خير من كونك ظالم منتصر، انتصر ثم استغفر ربك بعد ذلك.

 

وتذكر دائمًا يا صديقي، أنه لا عدو دائم ولا حليف دائم حتى يستقر حكمك وأن ثلثي الرصاص للخائن دائمًا".. ثم وجدت عاصفة من الترحيب بالكلام الغاضب بالنشر أو بالتحية، اعتقدت حينها أن شيئًا ما قد تغير في عقيدة هذه الجموع، أن المجازر التي حدثت كانت كافية لأن يعلم القاصي والداني من أمتنا من أين وكيف تؤكل الكتف، اعتقدت أن الناس قد سئموا دور الضحية ويريدون أن ينتصروا لمرة.
 

وها هو رجل من قلب هذه الأمة وإن كان لسانه لا يشبه ألسنتنا، رجل وحيد -لكنه ليس جبانًا سيد مونتسكيو- عبر عن غضبه ومقته لما يحدث من امتهان وذل لنا بشجاعة فأردى رجل نظام يقتلنا قتيلًا. حتى هذه النقطة تبدو الأمور كلها على ما يرام، دولة تقتل شعبًا بأكمله، فأخرج رجل مسدسه وقتل واحدًا فقط منهم. لكن المصيبة لم تكن فيما ترتب على الفعل بين روسيا وتركيا، إذ يبدو أن العلاقات بينهم على ما يرام وفقًا لتصريحات الكريملين وأنقرة.

 

المصيبة كل المصيبة في أولئك الجبناء، مرتعدي الفرائص، الذين إن لم يقتلوا اليوم سيقتلون غدًا وإن لم يكن فبعد غد، حيث قاموا يتبرأون من الرجل بكل خسة ودناءة وكأنه فعل هذا لهوى شخصي أو ثأر عائلي، ثم قاموا يسوقون أدلة الدين كلها ليثبتوا أن ما فعله الرجل حرام وأنه لا يجوز قتل رسول معاهد، إلى أخر كل تلك التلبيسات والمحاولات البائسة ليتبرأوا من فعلة الرجل. بينما لم يسأل أحدهم نفسه ما الذي يدفع شاب في الثانية والعشرين من عمره إلى أن يضحي بحياته وهو لم يكن يومًا ما جهاديًا ولا إسلاميّ وإنما كان فقط مسلمًا يشعر بأخيه المسلم. ما الذي يدفع آلاف الشباب العرب والمسلمين أن يذهبوا إلى ساحات القتال متخليين عن الحياة؟ ما فعله مولود ألطن طاش هو أمر طبيعي ولا يجب أن يمثل صدمة لأحدهم، فالعنف لا يولد البونبوني يا سادة.

 

هذا بينما لا يكلف أحد نفسه في الغرب عناء المحاولة ليواجه حكوماتهم العنصرية أو حتى ليعتذر لنا ولو مرة عمّا فعلوه، أو يقول لنا أن ما تقوم به حكوماتنا تجاهكم لا يمثلنا. بل على العكس، يقومون باختيار كل من يكرهون العرب والمسلمين والمهاجرين والمختلفين، وما ترامب عنا ببعيد. كأنه كتب علينا أن نكون نحن جبناء مونتسكيو وهم أقوياء هوبز. وكلما ظهر قوي بيننا قتلناه بأيدينا وتبرأنا منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.