شعار قسم مدونات

إذا تحدث الفيلسوف فلا تسمعوه

blogs - Read - Thoughts
واقع الفلسفة في العالم العربي لا يُبشر بخير منذ زمن بعيد، حيث أضحت الفلسفة مجرد نقل ونسخ، وشرح وتلخيص، حيث لا يعبر مقالها وحالها عن الواقع المعيش ولا يعبر عن أي تصور مستقبلي، فضاع المتلقي بين زخم ما يُكتب ويُنشر، وبين ما يقال ويُسمع، وتشوه فكره بين تجليات الفعل وغياب التعقل، فكان القرار الذي اتخذه المواطن العربي " إذا تحدث الفيلسوف فلا تسمعوه."

تحدث ابن رشد الفيلسوف في كتابه الضروري في السّياسة عن مستقبل الحاضرة الأندلسية الآيل نحو الأفول والسقوط ولم يستمع لندائه لا السّاسة ولا العلماء، فسقطت الأندلس.. وتحدث ابن خلدون عن قرب نهاية الأمة الإسلامية من خلال مقدمته الشهيرة ولم يستمع إليه أحد لا من قريب ولا من بعيد.. وتحدث مالك بن نبي عن شروط النهضة فلم يجد من يستمع إلى همساته الحضارية.. وتحدث أركون عن الحداثة والتجديد وبنية العقل الإسلامي فلم يجد من يشاركه هم السؤال والفهم.. وتحدث الجابري وحنفي وغيرهم عن التراث والتجديد، ولم نر لم كتبوا أثرا في الواقع الاجتماعي والثقافي.. هكذا هو حال المشتغل بالفلسفة في العالم العربي والإسلامي، يتحدث ولا يستمع الناس لحديثه.. ولعل السؤال لم؟

الساسة العرب لا يحبذون التقرب من الفلاسفة، بل ينزعون في كثير من الأحيان إلى العداء والقهر، والتضييق المُمنهج على المشتغل بالفلسفة.

1- الكوجيتو القاتل: تأسس في المخيال الشعبي العربي الكوجيتو الآتي: "أنت فيلسوف إذن أنت غير موجود." (غير مرغوب فيك) وعدم الرغبة في وجود المتفلسف يتجلى في ظاهرة عدم السّماع والتّفاعل مع ما يكتب ويُنظر، نظرا لجملة من العوامل أهمها العامل الاجتماعي والعامل الاقتصادي.

2- مفهوم الفلسفة: يحيل مفهوم الفلسفة في المجتمع العربي والإسلامي إلى دلالات سلبية وقاسية في الوقت نفسه، فهو دوما يحيل إلى المفارقة والمخالفة، ويترتب عنه أن المشتغل بالفلسفة خارج الزمان والمكان معا، إذ يُدرج دوما ضمن الفئة الحالمة (الطوباوية) أو الفئة التي تشتغل بالكلام الذي لا جدوى منه في الحاضر. يتجدر هذا المفهوم السلبي ليس فقط في الطبقة العريضة من المجتمع، بل حتى بعض الفئات المثقفة تقف أحيانا الموقف نفسه من مفهوم الفلسفة، وتتجه كما يقول ديكارت إلى اتهام المتفلسف بالإنسان الذي يبحث عن قطة سوداء في غرفة ظلماء. ويعتقد غالبية الناس بأن الفلسفة مجرد فن دخيل على العالم الإسلامي، وأن هذا الفن الدخيل الغاية منه خلخلة الإيمان والتشكيك في الدين …. هذا المفهوم المنافي لحقيقة الفلسفة هو الأكثر شيوعا، وقد ثبتته كتابات أبي حامد الغزالي، خاصة كتابه الشهير " تهافت الفلاسفة."

3- سلوك المتفلسف: ينم سلوك المتفلسف في كثير من الأحيان عن سلوك مخالف تماما للعقل والواقع وللقول الفلسفي الذي ينتجه، فسلوك المتفلسف العربي يجنح نحو التمرد اللّاواعي والاستهزاء الدائم بالتراث بمختلف أجناسه وأنواعه، تراه منبهرا بديكارت وكانط على سبيل المثال ولكن سلوكه منفصل عنهما، فكانط كان من أكثر الفلاسفة صرامة في النقد والتحليل ولكن كان أكثر الناس في وقته انضباطا بالأخلاق والقيم الإنسانية السامية. يُقدم لنا ابن رشد كفيلسوف تنويري عقلاني وينسى أن ابن رشد كان متعبدا مؤمنا، فقيها وحكيما، يتماهى مع نصوص ابن عربي وينسى أن يتمثل سلوك ابن عربي في نفسه، فابن عربي كان متعبدا مؤمنا ورعا يخشى على نفسه من عواقب السؤال السرمدي.

لذلك كتب بعض المشتغلين بالفلسفة عن ضرورة نقد الفعل قبل نقد العقل، ذلك أن نقد العقل يخاطب الأنتلجنسيا التي قد تتفاعل مع تلك الرؤي النقدية، بيد أن المجتمع ينظر للإنسان من خلال الفعل وانعكاساته على المجتمع، وأغلب المشتغلين بالفلسفة يتجاهلون كون الفعل هو مرآة المجتمع …. لا يمكن للمجتمع أن يسمع لمن يرى أفعاله تتناقض مع مبادئه وقيمه، ولا يمكن أن يستمع لمن ينتقده وهو نفسه في حاجة إلى نقد وتصويب، أو من يريد الإصلاح وهو فاسد فسادا كليا.

4- مكانة الفلسفة والفيلسوف: الفلسفة في المجتمع العربي حالها كحال الربيب "لا أخا اكتسب ولا أبا وَجد." حيث تُصنف ضمن المعارف المُنكرة لدى شريحة كبرى من المجتمع، وتصفها الكتل اللحمية المتحركة بفعل التاريخ والإيديولوجيا على أنها مطية الكفر والإلحاد والفسق، فالمشتغل بها كافر في كثير من فتاوي حراس النّوايا بكل أطيافهم وتفرعاتهم.

ومن ناحية أخرى، ليس للفيلسوف مكانة اجتماعية مرموقة، فالمتفلسف في أغلب الأحيان من الفئة المُفلسة ماديا، فأرفع منصب قد يحصل عليه يضمن له بالكاد قوت شهره كما يقول أستاذنا البخاري حمانة.

ويتجلى عدم الاهتمام بالفيلسوف من حيث المنظور السياسي، فالساسة العرب لا يحبذون التقرب من الفلاسفة، بل ينزعون في كثير من الأحيان إلى العداء والقهر، والتضييق المُمنهج على المشتغل بالفلسفة.

5- الجيل العائق: الجيل الذي سبقنا بعقود ليست بالبعيدة صنع فلسفة نجومية لا تختلف من حيث المقارنة عن جيل المطربين والممثلين. حاول هذا الجيل أن يقدم للمواطن العربي فلسفة تقوم على تقديم أعمال كبار فلاسفة الغرب، وكان يقتني الأسماء الأكثر شهرة في العالم وتأثيرا، فصنعوا مدونة فلسفية قائمة على التقديم والشرح لا على التوظيف والتمكين، فقدموا أعمالا لا تتقاطع في كثير من نصوصها ومتونها مع ما يثير المواطن البسيط محتجين بأن الفلسفة نخبوية، وهي أصلا تخاطب الأنتلجنسيا، فتحول هذا الاعتقاد إلى وجود فكر ترفي استعراضي أكثر منه فكر تنويري إصلاحي.

لا يمكن لمجتمع أن يتقدم بنظرة أحادية للعالم أو منهج مغلق واحد، فالفلسفة تمكننا من فهم الواقع والمساعدة على تجاوزه من خلال فتح باب المراجعة والنقد والتمحيص.

نحن ندين لهم بالكثير والكثير.. فعن طريقهم تعرفنا على كبار الفلاسفة.. واطلعنا على أفضل المتون الفلسفية.. لا أحد يزايد على شخصية مثل عبد الرحمن بدوي أو إبراهيم مدكور.. لكن عيب جيل النجومية أنهم لم يؤسسوا مدارس فلسفية.. جُلهم عملوا بشكل فردي، فلما ماتوا انقطع ذكرهم، فهم لا يذكرون إلا في خانات الاستشهاد عندما نوثق بعض نصوصهم.

6- الجيل العاق: إذا كان جيل النجومية قضى على معالم التفلسف في الوطن العربي من حيث انسياقه وراء فلسفة الترف (البريستيج) فإن الجيل المعاصر هو جيل النكران والعقوق، جيل يتحدث كثيرا ولا يكتب إلا قليلا، وإن كتب يكتب بلغة بعيدة كل البعد عن اللغة من حيث قواعدها ومبادئها، لغة تحتاج إلى لغة أصلا.

وهو جيل في الوقت نفسه يرفض أن يمنح لقب الفيلسوف للجابري وحسن حنفي ومكاوي وطه عبد الرحمن وأركون وغيرهم من رواد الجيل الأول.. لكنه في المقابل يطلق على نفسه لقب الفيلسوف على صفحات الفيسبوك والجرائد اليومية، ثم يتبادلون أدوار التسمية.. إنه جيل تعيس لا لغة اكتسب ولا فكرا امتلك.. مجرد هذيان وثرثرة على موائد المقاهي والبارات.. وإن صادفك وقرأت كتابا تجده مجرد اقتباس ولصق، ويضيع صاحبه بين قال ويقول..

لا يمكن لمجتمع أن يتقدم بنظرة أحادية للعالم أو منهج مغلق واحد، فالفلسفة تمكننا من فهم الواقع والمساعدة على تجاوزه من خلال فتح باب المراجعة والنقد والتمحيص، وفتح باب الممكن والمحتمل من خلال ما تطرحه من أسئلة ومطالب. قد لا نسميها بالفلسفة بل لنسميها بالحكمة تماشيا وثقافة الشرق.

وعليه تعلموا الحكمة وعلموها فثمة فلسفة.. ولنبتعد عن الفلسفة التي لا تنتج فلسفة، ونخط لأنفسنا طريقا نُثبت فيه وجودنا الحضاري وفق قيمنا المستنيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.