شعار قسم مدونات

وهم الطريق المختصر

Blogs - CAR TRAVEL
يذكر أحد المفكرين الإسلاميين أنه كان -في بداية رحلته الأسرية- يبحث عن طريق مختصر يعطيه الزبدة والخلاصة فيما يخص تربية الأولاد، هذا العلم الذي قد يندرج كفرع من علم كبير تُنفَق في دراسته الأعمار وتؤلف في خضمه الكتب (علم النفس)، لكنه لم يكن مستعداً لقراءة أمهات الكتب التي تبحر في هذا المجال لأنها بالتأكيد ستأخذ الكثير من الوقت، "لو أن هنالك طريقاً معرفياً قصيراً ومختصراً يوصلني إلى زبدة الكلام وخلاصة القول؟".

كثير من الشباب يفشل في إتقان اللغة الإنجليزية، من لم يتعلم في مدارس اللغات في المراحل الدراسية تظل عقدة اللغة الإنجليزية لديه زمناً طويلاً، فلا هم الذين أتقنوها كتابة ونطقاً ولاهم الذين تركوها في حال سبيلها، يبقى الوضع في المنتصف يصعد ويهبط، ذلك لأنهم كلما قرروا اجتياز الطريق والانطلاق نحو القمة بحثوا عن الطرق السريعة للوصول، قد تتاح لهم فرصة إجازة الصيف فقط، أو عدة شهور قبل الدراسات العليا، لذا فإن الطريق المختصر سيكون الأنسب (هكذا يفكرون)، 3 شهور مضغوطة وإن شاء الله اصبح (بلبل) في الإنجليزية! ثم تمضي الشهور وتتلوها السنين والوضع كما هو.

ما زلت أتذكر ذلك الفيديو الذي رأيته قبل سنين لشاب قبل تفجيره الانتحاري وهو يقول: ضغطة بسيطة على هذا الزر، وتصل مباشرة إلى الجنة… يبدو أنه اكتشف طريقاً مختصراً إلى الدار الآخرة.

يتأمل جسمه في المرآة، يدرك -وقد اعترته نوبة حزن- أنه أصبح بديناً، يقرر حينها أن يبدأ رحلة التخسيس، يتوجه مباشرة نحو العم جوجل ليوصله لأقرب محطة معرفية تعطيه الـ (حل) على طبق من ذهب، كثير من المقالات والعديد من المعلومات حول التمارين الرياضية والنظم الغذائية، يقرأ بعض المقالات ويتعلم بعض الوصفات ثم ينطلق في رحلته نحو الوزن المثالي، تمارين مجهدة ونظام غذائي صارم، إنه طريق مختصر نحو الوصول إلى الوزن المثالي، تمر الأيام ثم الأسابيع، يدرك أنه كان مخطئاً في تقدير الأمور، ليس هنالك ثمة وصفات سريعة أو طرق مختصرة، إنما الأمر يتعلق بنمط الحياة المتبع.

من قال إن التحول من الفقر إلى الغنى أمر صعب، بالذات في هذا العصر وهذا العالم المنفتح، ربما كان من الصعب في الماضي فتح دكان في الحارة، الأمر يتطلب إلى تصريحات وبحث عن محل فارغ وكثير من الأمور والتعقيدات، لكن اليوم أنت قادر على فتح دكانك في وسط شوارع أمريكا، لا تحتاج إلى تصريح أو موافقة، طبعاً أنا لا أقصد هنا دكانا بالمعنى التقليدي، لكني أقصد موقعاً إلكترونياً، موقعاً تبيع من خلاله منتجات أو تقدم فيه المعلومات والمقالات وتربح عبر الإعلانات الرقمية، يمكنك أن تبدأ مدونة تتحدث فيها عما يهم الشعب الأمريكي مثلاً وتقدم فيها محتوى إنجليزي، وبالتالي أنت تستهدف المجتمع الأمريكي وستحصل بعد ذلك على عائد من خلال الإعلانات التي تنشرها الشركات الأمريكية في موقعك.

ستقول لي: مهلاً، توقف قليلا، مدونة ولغة إنجليزية وشؤون أمريكية! هذا الأمر يحتاج شخصا متقنا للغة الإنجليزية ولديه خلفية بالثقافة الأمريكية، هذا الشخص ليس أنا، من تخاطب بكلامك؟ ينتهي كلامك ويبدأ كلامي: بل يمكن أن يكون أنت ذلك الشخص، فقط أخبرني: هل تعجز أن تتعلم اللغة الإنجليزية حتى تتقنها؟ هل تعجز أن تقرأ الكثير عن شؤونهم وتتعلم بعض ثقافتهم؟ هل هذا الأمر مستحيل وأنت تعيش في عصر يتيح لك الوصول إلى أي معلومة عبر نقرات بسيطة وتعلم أي مهارة -أو لغة- وأنت تتكئ في مجلسك؟ ستجيب وتقول: الأمر يتطلب الكثير من الوقت. نعم وهذا هو مربط الفرس.

الطريق ليست ممهدة، يجب عليك أن تمهدها بسواعدك وعرق جبينك، تلك الحياة الدنيا لكل فرد فينا هي فترة حضانة للنفس البشرية.

الوصول إلى الثراء أمر بسيط، لكنه يتطلب وقتا، المشكلة أن الناس تريد طريقاً مختصراً، تريد أن تصبح غنية الآن، أو ربما الشهر القادم، وللأسف تغيير الواقع أمر صعب -إن لم يكن مستحيلاً-، لكن تغيير المستقبل أمر سهل جداً، كل ما عليك فعله هو المضي وفق خطوات واضحة ضمن خطة محددة ولا تستعجل النتائح، شهر بعد شهر سنة بعد سنة وسوف تصل إلى هدفك، ما دمت كل يوم تتقدم خطوة حتى وإن كانت صغيرة، نعم هذا هو الطريق الأصلي الذي يوصلك إلى النتائج المضمونة، أما الطريق المختصر فهو مجرد وهم يعشعش على العقول.

الحياة مليئة بالإخفاقات والنجاحات، ومن إخفاقاتنا نتعلم فنعرف الطرق الصحيحة، من تلك الطرق المختصرة الفاشلة نعرف ونفهم أنها مجرد وهم وأن الوقت عامل مهم لإنجاز أي شيء والمجهود مطلوب للوصل لأي غاية أو هدف، لكن المشكلة هي عندما لا يتاح لنا العودة إلى الحياة كي نسلك الطرق الصحيح، ما زلت أتذكر ذلك الفيديو الذي رأيته قبل سنين طويلة لشاب قبل تفجيره الإنتحاري وهو يقول "ضغطة بسيطة على هذا الزر، وتصل مباشرة إلى الجنة"، فيما يبدو أنه اكتشف طريقاً مختصراً إلى الدار الآخرة، لكن هل فعلاً سيوصله إلى حيث يريد؟ المشكلة الكبرى أنه طريق خروج نهائي لا رجعة فيه، لا يتسنى للمرء التأكد من صحته والتعلم من تجربته ثم البحث من جديد عن طريق آخر، لذلك فالأمر جدُّ خطير.

يجب عليك أن تعيش معترك الدراما البشرية حتى آخر نفس، أن تسلك الطريق الطويل المحدد سلفاً بالمسافة بين ميلادك ومماتك، لا يوجد طريق مختصر للدار الآخرة، لا تعلم أين هي نهاية الطريق ومحضورٌ عليك أن تححدها سلفاً، الطريق ليست ممهدة، يجب عليك أن تمهدها بسواعدك وعرق جبينك، تلك الحياة الدنيا لكل فرد فينا هي فترة حضانة للنفس البشرية، تستلمها الحياة غضة طرية بعد الميلاد ثم تسلمها "طيبة" مستعدة لبدء الحياة الحقيقة في عالم آخر، لكن فقط إن نحن أحسنا المضي في الطريق، ذلك الطريق الذي لن يكون مختصراً أو سريعاً.

"فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)" سورة البلد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.