شعار قسم مدونات

أهلية المواطن الصحافي

blogs - journalist
قفزات جريئة في مجال الرقمنة خلال ما يناهز عقدان من الزمان، قادت عامة الناس للولوج إلى فضاءات الإعلاميين ومحاكاتهم في إنتاج الرسائل التواصلية. فبعد أن توفرت أدوات الاشتغال الصحافي، من كاميرات لتسجيل الصور المتحركة والثابتة وتسجيل الصوت وكتابة النصوص وتحريرها وتنسيقها، وأدوات النشر، ممثلة في شبكة الإنترنت وشبكة الويب، نشطت الرغبة في تجريب الهواية الإعلامية بما يلازمها من تحقيق الشهرة، وممارسة حق التعبير، فضلا عن إغراءات الانتقال من التواصل الاجتماعي التقليدي إلى التواصل الاجتماعي الرقمي.

لقد تجمعت كل هذه الأدوات والمعينات لتشكل سترات نجاة تغري المواطنين بخوض بحار الإعلام – بكيفية جماعية – على الرغم من أمواجها المتلاطمة. هنا برز تساؤل ملحّ: ما مدى أهلية المواطن العادي حتى يصبح صحافيا دون المرور بخطوات الإنتاج الإعلامي التي يمر بها الصحافيون المحترفون؟

يتمايز التواصل الإعلامي عن بقية أشكال التواصل الإنساني من خلال الفنون التحريرية التي تم تطويرها من لدن الإعلاميين المهنيين لتوائم وسائل الإعلام المختفة.

يشير مفهوم المواطن الصحافي إلى الشخص -غير المحترف- الذي ينتج الرسائل التواصلية الإعلامية أو يحصل عليها جاهزة فينشرها بواسطة الأجهزة الرقمية الشخصية التي يستخدمها في حياته اليومية عبر مواقع التواصل الاجتماعي الرقمي ومواقع الإعلام الإلكتروني. وينطبق هذا الوصف على بلايين البشر الذين جعلوا من هواتفهم الذكية والأجهزة المكافئة لها، أدوات للتواصل بمفهومه الشامل.

يجد الناظر في انغماس الناس في ممارسة العمل الإعلامي بعد أن امتلكوا جهازا "سحريا"، هاتفا ذكيا أو أشباهه من الأجهزة اللوحية Tablets، والساعات الرقمية الذكية، تهافتا لا قِبَل له بالتقاليد المهنية الصارمة التي سار ويسير في دروبها الصحافيون المحترفون، والتي يمكن إجمالها في الآتي:

1- سياسة التحرير:
الأمر الذي قد لا يعرفه المواطن الصحافي، هو أن الإعلامي المحترف لا ينشر المادة الإعلامية إلا بعد أن يتم إخضاعها لسياسة التحرير التي تتّبعها المؤسسة الإعلامية التي ينتمي إليها، وتتضح مواءمتها لهذه السياسة. أي أن الإعلامي المحترف يعكس صورة المجتمع بمرآة خاصة تشكلها المؤسسة الإعلامية التي ينتمي إليها ومن خلفها من يمتلكها. كما أن سياسة التحرير تُستَمد من العلاقات المعقدة التي تربط وسائل الإعلام بالدولة والسلطة والمجتمع والخارج، إذ تبدو أحيانا كالسير على الحبال، الأمر الذي لا يقدر عليه المواطن الصحافي.

2- فنون التحرير:
يتمايز التواصل الإعلامي عن بقية أشكال التواصل الإنساني من خلال الفنون التحريرية التي تم تطويرها من لدن الإعلاميين المهنيين لتوائم وسائل الإعلام المختفة. فلكل جنس من الأجناس الصحافية فنونه التحريرية سواء كان خبرا أو مقالا افتتاحيا أو حوارا أو تحقيقا أو استطلاعا أو تقريرا. يعرف الإعلامي المحترف كيف يقدم رسالته التواصلية آخذا في الاعتبار السياقات الزمانية والمكانية وآخذا في الاعتبار الجمهور المستهدف.

المواطن الصحافي قد لا يفرق بين توفر الحصول على المعلومة أو توفر إمكانية إنتاجها وبين إمكانية نشرها والاستعداد لتحمل تبعات النشر.

3- حراسة البوابة:
يشير مفهوم حراسة البوابة إلى قدرة الإعلامي على انتقاء الرسائل التواصلية التي تستحق النشر انطلاقا من مواءمتها لسياسة تحرير الوسيلة الإعلامية، وصلاحيتها من حيث المعلومات الواردة بها، وذلك من بين العدد الكبير من الرسائل التواصلية المتدفقة على الوسيلة الإعلامية. فهناك قاعدة يستند إليها الإعلامي وهو يمارس دور حارس البوابة مفادها أن "ليس كل ما يُعرَف يُقال". ويتمظهر دور حارس البوابة في شكل تثبُّت من صدقية المصدر، وإعادة الكتابة (التحرير)، والحصول على موافقة إدارة التحرير، والإخراج الذي قد يُلبِس الرسالة التواصلية ثوبا يؤثر في محتواها.

4- مهارات الإنتاج الإعلامي:
يفتقر الغالبية العظمى من المواطنين الصحافيين إلى مهارات الإنتاج الإعلامي المرتكزة إلى أسس علمية وفنية تجعلها أقرب إلى التواصل الفعّال. فعلى سبيل المثال، تجد الناس يلتقطون الصور ويسجلون مقاطع الفيديو دون معرفة بتقنيات التصوير وجمالياته مثل أحجام اللقطات وزوايا التصوير والتكوين وحركة الكاميرا والإضاءة ودرجة الوضوح. أو يفتقرون إلى أسس وفنيات تحجيم الصور والتوضيب (المونتاج). بينما يتعامل الإعلامي المحترف مع هذه الأسس والفنيات باعتبارها الأداة السحرية لإنتاج الرسائل التواصلية الإعلامية القابلة للتلقي من لدن الجمهور والمُحقِّقة لأهداف المؤسسة الإعلامية وغاياتها.

5- أخلاقيات العمل الإعلامي:
أعتقد أن أهم ما قد يُفقد المواطن الصحافي أهليته لممارسة العمل الإعلامي، عدم إلمامه بقوانين العمل الإعلامي وأخلاقياته، أو عدم التزامه بها. إذ يعرف الإعلامي المحترف ما المقصود بحرية التعبير وحدودها وأثرها على الفرد والمجتمع والدولة والمتاعب والتبعات الناتجة عن ممارستها، خلافا للمواطن الصحافي الذي قد لا يفرق بين توفر الحصول على المعلومة أو توفر إمكانية إنتاجها وبين إمكانية نشرها والاستعداد لتحمل تبعات النشر جهلا بالقوانين وأخلاقيات المهنة، في الوقت الذي لا يُعذَر من يجهل القانون.

خلاصة القول إن المواطن الصحافي يحتاج إلى تأهيل إعلامي يحصل عليه من خلال التكوين النظامي أو التكوين الذاتي الذي تتيحه شبكة الويب باعتبارها أكبر مدرسة مفتوحة على مستوى العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.