شعار قسم مدونات

قصة قرية سورية

قصة قرية سورية
ركام بيوت مدمرة، نصف مئذنة لا تزال قائمة، أصوات مدافع لا تهدأ، هو ما يستقبلك عندما تزور معرشمشة.
 

 قرية ترى أولها من آخرها، سُويت حارتها الشمالية بالأرض بينما صمدت بعض منازل الحارة الجنوبية لتحكي للزائر أن هذه القرية -التي أصبحت أثرًا من بعد عين- لم تكن مهجورة فيما مضى، بل قرية سكن فيها بشر وأسكنوها ذكرياتهم وأجزاء ثمينة من أعمارهم.
 

 في الريف الجنوبي لمحافظة إدلب، وتحديدًا بمحاذاة القاعدة العسكرية الأعتى للنظام السوري في شمال سوريا التي تسمى "وادي الضيف" ولا ضيف فيها حقيقة سوى رائحة الموت والبارود المنبعثة من كل زوايا الوادي، والصواريخ والقذائف المنهالة منها على كل من جاورها، هناك تقبع قرية صغيرة اسمها "معرشمشة" وإلى أن أتقنت نطق اسمها تطلب مني ذلك عناءً، فأسماء القرى السورية معادلة من الدرجة الرابعة.
 

نسبة الدمار في القرية أكثر من 70%، وباتت شبه خاوية إلا من بعض أهالي الحارة الجنوبية

لم أكن أعرف القرية أو أسمع عنها قبل شتاء عام 2013 عندما زرتها للمرة الأولى في إطار حملة إغاثية، حينها أقبل شاب اسمه يوسف وعرض علينا زيارة القرية للاطلاع على وضعها الإنساني الصعب، والحقيقة أنني لم أتشجع في البداية؛ ففي بيئات الحروب والأزمات سيعتاد مسمعك على سماع هذه الدعوات التي يرى صاحبها أن منطقته هي الأشد تضررًا وتأثرًا وحاجة، ولكن قد يكون لاسم القرية الغريب وهيئة يوسف المريحة أثر كبير في قرارنا بزيارة القرية.
 

حينما وصلنا القرية لم يكن أمر العثور على صاحبنا بالأمر الصعب، "يوسف.. يوسف" نادينا على صاحبنا فظهر من بين بيوت مسوّاة بالأرض، فالقرية التي نهشت القذائف منها الكثير حتى باتت نسبة الدمار فيها أكثر من 70%، باتت شبه خاوية إلا من بعض أهالي الحارة الجنوبية الذين آثروا البقاء برغم القصف المستمر بسبب التصاقها بوادي الضيف. 
 

في مطلع القرية استقبلنا مسجد توجه نحو القبلة كما هي بيوت القرى السورية بشكل عام، فالبيوت تبنى بحسب أعراف الناس وعاداتهم باتجاه القبلة جنوبا، وقد نال القصف ما ناله من المسجد الذي بات بثلثي مئذنة، وما إن تقدمنا حتى بدأت أصوات انفجارات ومدافع ليست ببعيدة تستقبلنا كذلك، حاولنا التجلد والتماسك بالرغم من أن كل صوت منها يفزع من في القبور! 
 

عند زيارتك للقرى السورية ستلاحظ بشكل واضح أن مظهر القرية وبساطتها يعكس حجم الفقر والحاجة التي كانت منتشرة حتى قبل بدء الأزمة الإنسانية، كما أنك ستلاحظ مدى الإهمال في الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء التي تضررت كثيرًا حتى غابت بفعل القصف.
 

معرشمشة ليست بمنأى عن بقية القرى، فالقرية المكونة من حوالي 900 عائلة تعاني من فقر وإهمال قبل الأزمة الإنسانية، ويعمل غالبية أهلها في أعمال البناء ويتقاضون أجورًا منخفضة لقاء ذلك. 
 

كل شيء في معرشمشة يوحي بالصمود، حتى الكتابات التي خطها السكان على ركام البيوت

بالرغم من أن الطيران يغير على القرية ومحيطها ما يقارب من 25 غارة يوميًّا فإن عددًا غير قليل ممن قابلنا من العوائل ممن لا تزال بيوتهم قائمة آثروا البقاء والصمود على النزوح، وآثروا أصوات المدافع والقذائف وخطورتها على التشرد وترك بيوت آبائهم وأجدادهم.
 

حينها همست بأذن يوسف "والله أصوات المدافع تخلي الحيوانات تنزح مو بس البني آدمين" فابتسم وقال "الوطن يا أستاذ.. الوطن.. الزرعة اللي تنزع من تربتها تموت وإحنا هيك".
 

يوسف ابن معرشمشة، ولديه أطفال صغار، لذا نزح إلى قرية مجاورة آنيًا من أجل أطفاله الذين باتوا يعانون من مشاكل نفسية بسبب القصف، ولكنه يأبى إلا أن يقضي جُلّ وقته في قريته، وبين أهله.
 

وبما أننا ذهبنا يومها على غير موعد فقد كان في انتظارنا خبر مفرح على غير موعد كذلك، فيومها كان عرس شقيق صديقنا يوسف في القرية المدمرة، فالأمل لم يغادر نفوس أهل القرية والفرحة كانت لا تزال حاضرة بالرغم من كمية الركام الذي ملأها. 
 

في سيرنا بين ركام البيوت لا غرابة أن نجد لعبة طفل، أو ملابس أب أو أم، أو حتى مصحفًا بقيت منه بعض الأوراق الممزقة، كل شيء هنا يذكرنا بأصحابه، ويروي تفاصيل يوميات زاخرة بالحياة مرت من هنا ورحلت مع الشهداء والموتى. 
 

كلما أكملنا المسير ازدادت أصوات القذائف والانفجارات علوًّا حتى واجهتنا أسهم تدل على اتجاه وادي الضيف "من هنا وادي الضيف" أكملنا المسير فواجهتنا عبارة كتبت على أحد الجدران "احذر الجيش من هنا.. وادي الضيف على بعد 400 متر" حينها توقفنا وعدنا نجوب القرية مجددا. 
 

تعلمت من معرشمشة أن الوطن أغلى من أن يُنسى مهما طال الظلم والطغيان.

كل شيء في معرشمشة يوحي بالصمود، حتى الكتابات التي خطها السكان على ركام البيوت، يأبى أهلها أن ينسوا بيوتهم، ومما استغربته حينها أن جُلّ من دُمرت بيوتهم نزحوا إلى قرى قريبة ليعودوا كل جمعة حين يهدأ القصف ويزوروا القرية. 
 

في أواخر عام 2014 اندلعت معركة واسعة لتحرير وادي الضيف وكان ذلك، فعاد أهالي معرشمشة إلى بيوتهم وديارهم، وكان لي أن زرت القرية مطلع عام 2015 لأرى القرية قد تبدل وجهها وعاد أهل القرية وعمروها من جديد، ليسطروا درسًا في الصمود وحب الحياة. 
 

تعلمت من معرشمشة أن لا مستحيل مع الإرادة، وأن الوطن أغلى من أن يُنسى مهما طال الظلم والطغيان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.