شعار قسم مدونات

بين صورتين

blog - salma

يقولون إن بعض الصور والأماكن تطبع في ذاكرة الإنسان وتفعل فعلها في أدمغتنا وذاكرتنا، فتلامس هذه الصور لحظات عديدة نعيشها، وتستعيدها ذاكرتنا لتسقطها على الواقع بجديده، فتتكون سلسلة من حلقات الماضي والحاضر، تتشابك ولا تمحى، ليكون لها أثر عميق في تكوين شخصيتنا ووعينا.  

 

في بيتنا بالشام ‘كما يحلو لأهلها تسميتها’، فتحت عيني على صورة معلقة على حائط غرفة الجلوس، حفرت في ذاكرتي حتى أكاد أراها أمامي. هي صورة لمسجد قبة الصخرة في القدس المحتلة، كُتب في أعلاها الآية الأولى من سورة الإسراء، وفي أسفل اللوحة عبارة " فتحها عمر وحررها صلاح الدين، فمن لها الآن؟".

 

من هنا بدأت وبدأ الوعي يتشكل بأسئلة مني وأجوبة من والدي. ولأن فطرة الخير والعدالة والحق هي ما يفطر عليه الإنسان، جاءت استفساراتي البسيطة على نحو: كيف يمكن نزع أناس آمنين من منازلهم وأرضهم وإعطائها لغيرهم؟ كيف يمكن أن يسكت العالم عن هذا الظلم؟ ثم لماذا لم يتحرك العرب! أين العدالة؟ وواصلت بطبيعة الحال إلى السؤال البديهي: إذا كان الرئيس هنا مع استعادة فلسطين لماذا لم يتحرك حتى الآن؟؟ وهنا قيل لي ضعي السؤال ببالك وسيأتيكِ الجواب حتماً يوماً ما.

سنون مرت وعرفت كما عرفتم كيف هُزمنا من القريب والبعيد، من الطامع الغريب والقائدِ الفذ القريب، ولم تأت الأيام لنا كشعوب إلا بالانتظار في وحل الشعارات الطنانة، والأقوال الرنانة، والوعود بالتحرير والعودة، إلى أن وصلنا وأوصلنا القادةُ للواقع، فنفضوا عنهم تجارة الأوهام لسنين وكشروا عن أنيابهم غير آبهين بقبح وجوههم.

 

طريق العودة يطول ويبعد كلما كبرتُ وتباعدتْ منحنيات بقعة الدم في المنطقة

وإن كانت صورة الماضي تحمل أسئلة الأمل بالعودة، فمشاهد الحاضر باتت سريالية لكثرة ما حملت من واقع التصق بالفجائع والمآسي، حتى بات طريق العودة يطول ويبعد كلما كبرتُ وتباعدتْ منحنيات بقعة الدم في المنطقة.

 

وليس هناك أكثر دلالة وتصويراً لمآلات الحال، من صورة بعض مَن بقي من أبناء مخيم اليرموك المحاصر في دمشق، محتشدين ليحصلوا على بعض المساعدات، فهي تختزل الحكاية، لا، بل وتعيدها إلى ما قبل البداية.

 

هذا الشتات جزء من شتات أعظم، كانت أوطان العرب القريبة تجمعهم بحلوها ومرها، على أمل العودة، كانت فلسطين التاريخية القريبة جغرافياً تداعب البال الشارد، فكيف ستأتي إليهم الآن؟ وأين؟ بين ركامِ وأطلالِ مخيمٍ بني على نكبة ليعيش نكبة جديدة، أم في اغتراب آخر يشق البحر موتاً ليتفتت ويذوب في سماء أوروبا!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.