شعار قسم مدونات

النظرية النقدية والإعلام العربي.. خمس سنوات من الثورة (1)

blogs - media

بقصد أو بغير قصد؛ استفادت وسائل الإعلام العربية وطبقت داخل "الربيع العربي" أفكار منظّري المدارس الفكرية العالمية ولاسيما مدرسة فرانكفورت ومنظريها، لتكون الوسائل الإعلامية خير مثالٍ لما حملته مدرسة فرانكفورت ومنظريها من أفكار وانتقادات؛ حيث عملت وسائل الإعلام العربية على إثارة الجمهور العربي الذي بات لا يملك من أمره شيئا، وبقي مستعداً لتلقي الأفكار التي حملتها تلك الوسائل، وباتت تُسيّره على هواها وترسم له الطريق الذي تراه مناسباً، بغض النظر إن كان هذا الطريق هو الصحيح أم لا.

رواد مدرسة فرانكفورت والتي تعدُّ أول تيار فلسفي، اجتماعي، نقدي معاصر نقد الأفكار التي دعا إليها عصر التنوير ونكص عن تحقيقها، في محاولة لوضع نظرية نقدية للمجتمع تربط بين التفكير والممارسة ربطاً جدلياً.

النظرية النقدية التي ارتبط اسمها بمؤسسها ماكس هوركهايمر (1895 – 1973) وزميله ثيودور ادورنو (1903 – 1969)، ارتبط اسمهما أيضاً بمعهد البحث الاجتماعي بجامعة غوته بفرانكفورت، حيث أبدع الصديقين الفكر النقدي السلبي الذي يندمج مرة أخرى بالفلسفة، التي تجرد نفسها من أي ادعاء سلطوي أو طوباوي.

مع بداية الربيع العربي استبدلت وسائل الإعلام العربية أسسها القديمة البالية التي اعتمدت على توجيه جمهورها من خلال خطاب نخبوي

وبالإضافة إلى أدرنو وهوركهايمر، برز أيضاً هربرت ماركوزه (1898 – 1984)، الذي تمثل فكره في رفض المجتمع القمعي القائم والثورة عليه من خلال تأكيده على الدور الحاسم والثوري للعقل في حياة الإنسان وعدم النظر إلى المجتمع من رؤية ذات بعد واحد وخصوصاً في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد".

النظرية النقدية هي وقبل كل شيء نظرية نقدية للمجتمع حيث أن المتابع لكتاباتها يجد أنها تركز على الجانب الاجتماعي العملي في السلوك بالدرجة الأولى، -وهو موضوع البحث- الذي سنرى خلاله تأثير وسائل الإعلام العربية ولاسيما في فترة الربيع العربي في سلوك الجمهور العربي.

أساسيات النظرية النقدية التي أرساها منظّروا مدرسة فرانكفورت وجدت طريقها إلى القائمين على الوسائل الإعلامية الناطقة بالعربية وباتت ممارسات هذه الوسائل في ربيع العرب تطبيقاً واضحاً لأسس النظرية النقدية، لكنها أتت متأخرة لدرجة أنّها حاولت إصلاح ما خربته هي ذاتها على مدى خمسين عاماً، لكنها زادت من ذلك التخريب، وذهبت بالجمهور العربي إلى أبعد مما تخيلت هي ذاتها.

بناءً على ما سبق يمكن القول إنّه ومع بداية الربيع العربي استبدلت وسائل الإعلام العربية -إن كانت مع ذلك الربيع أو ضده – أسسها القديمة البالية التي اعتمدت على توجيه جمهورها من خلال خطاب نخبوي؛ فج وقديم، إلى استحضار شهادات من خبراء في كافة المجالات لخدمة أهداف تغطيتها الإعلامية، بالإضافة للاستعانة بالتقنيات الحديثة في نقل الكلمة والصورة، وقد تجلت هذه الجزئية في الأعوام الخمسة الأخيرة.

وإذا كانت مدرسة فرانكفورت تتجاوز النظرية الكانطية، والمثالية الهيجيلية، والجدلية الماركسية، فهي في جوهرها نقض للواقع، ونقد للمجتمع بطريقة سلبية إيجابية، وبمعنىً آخر أن نقد متناقضات المجتمع، ليس فعلاً سلبياً، بل هو فعل إيجابي في منظور مدرسة فرانكفورت، هذا بالضبط ما فعلته أغلب الوسائل التي دعمت الربيع العربي، لتبدأ بـ "جلد ذات المجتمع العربي" لتصل به إلى الثورة العارمة، متناسيةً أنه مجتمع ينقصه الثورة الداخلية على كافة مفاهيمه وعاداته وأسلوب تفكيره وحياته، وهو ما لم تنتبه له تلك الوسائل، حيث وصلت إلى أعلى الهرم قبل المرور على قاعدته؛ باستثناء بعض وسائل الإعلام التي عملت ومنذ نشأتها على تنوير الإنسان العربي.

النظرية النقدية التي ظهرت كرد فعل على المثالية الألمانية، وكرد فعل على الوضعية التجريبية التي كانت تدرس الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية من خلال ربط المسببات بالأسباب، في إطار تصور آلي ميكانيكي، نجد أنّ النظرية النقدية هي قراءة نقدية للعقل الجدلي ليس بالطريقة الكانطية، بل في ضوء رؤية ماركسية واقعية جدلية.

وبالتالي تعمل النظرية النقدية على نقد الواقع الاجتماعي، وتقويض تصوراته الأيديولوجية، والبحث عن تجليات الاغتراب الذاتي والمكاني سواء في النصوص والخطابات أو في واقع الممارسة، هذا بالذات ما أغفلته وسائل الإعلام العربية على مدى الخمسين عاماً الفائتة، حيث ركزت في مسيرتها على تكريس الجهل من خلال البرامج التي اعتادت بثّها – وهنا نستثني بعض الصحف والإذاعات والمحطات المتلفزة- لتبقى صاحبة التأثير الأكبر على المجتمع لتجعله مخلوق استهلاكي لا يستطيع اختيار ما يريد أو تجنب ما لا يريد.

"الهيمنة" هي الحال المعمول به في وسائل الإعلام العربية التي هيمنت على عقول المجتمع العربي فترة طويلة من الزمن

نقطة اختلاف أخرى بين النظرية النقدية وبين أسلوب العمل الذي اتخذته وسائل الإعلام العربية؛ ويبدو هذا الاختلاف جليّاً بالنظر إلى ما يقوله "هوركايمر" الذي يعتبر أبرز منظري مدرسة فرانكفورت: "ما تعبر عنه الاتجاهات الوضعية في نظريتها للنشاط البشري على أنه شيء أو موضوع خارجي داخل إطار من الحتمية الميكانيكية".

فالنظرية النقدية بقول "هوركايمر": "ترفض النظر إلى الوقائع الاجتماعية على أنها أشياء، ومن ثم ترفض طابع الحياد الذي تتسم به الوضعية، وتحاول في المقابل أن تطرح فكراً لا يفصل بين النظرية والممارسة" وهنا يبدو الاختلاف جليّاً من خلال ممارسات وسائل الإعلام العربي على مدى الخمسين عاماً الفائتة بتجهيل الجمهور والعمل على زيادة اغترابه عن واقعه؛ باستثناء بعض التجارب الخجولة التي اندثرت ولم يعلم بها أحد.

النقد الذي كان ولا يزال من أهم وأخطر الأدوات المعرفية التي من الممكن أن تقوم بها الفلسفة، ليس نقد الأفكار فحسب، بل ونقد ممارستها الفعلية في الواقع الاجتماعي وهو الأمر الأكثر أهمية، من هنا تنبع أهمية إسقاط النظرية النقدية على ممارسات وسائل الإعلام العربية ومعرفة المسارات التي سارت بها قبل الربيع العربي وخلاله؛ وما صاحبها من تفاوت في طرائق طرح محتواها المعرفي.

النظرية النقدية والتي تمثل سعياً علمياً مُلحاً لتحرير العقل الجمعي في المجتمعات الرأسمالية ليتمكن الأفراد من تحقيق انسانيتهم، حيث يستطيع المتابع لنواحي الاهتمام العلمي المتعددة لرواد مدرسة فرانكفورت وتلامذتهم أن يجد سعياً حثيثاً نحو تحرير الإنسان من "الهيمنة"؛ ذلك المصطلح الذي يعد أساساً محورياً تدور حوله العديد من المناقشات العلمية بين رواد و مفكري فرانكفورت.

يبقى الشعب هو الخاسر الأكبر مع غياب وسيلة إعلامية مصرية قادرة على جذب الجمهور وتمثيل إرادته الحقيقية

"الهيمنة" وهي الحال المعمول به في وسائل الإعلام العربية التي هيمنت على عقول المجتمع العربي فترة طويلة من الزمن، غير أنّه – المجتمع العربي – وفي فترةٍ لا تتعدى أشهراً قليلة تجاوزت تلك الوسائل وهيمنتها على عقلهم الجمعي، متخطين كل حدود اللامعقول ليجدوا أنفسهم متخبطين داخل متاهة من الأفكار والنظريات والمدارس الفلسفية والأصول الأيديولوجية.

لتعود تلك الوسائل وبلباس جديد في محولة لإعادة الكرّة من جديد، بعضها يحاول جذب الجمهور إلى ماضيه "القريب" -زمن الهيمنة- وأخرى تحاول العبور به إلى زمن الثورة، وهو الأمر الذي رأيناه خلال انقلاب وسائل الإعلام المصرية على ثورة الشعب وكيف باتت تلك الوسائل تتلاعب بالجمهور ليبقى الشعب هو الخاسر الأكبر مع غياب وسيلة إعلامية مصرية قادرة على جذب هذا الجمهور وتمثيل إرادته الحقيقية، خصوصاً بعد إغلاق المحطات المناوئة للانقلاب.
يتبع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.