شعار قسم مدونات

الحكمة المزيفة.. لا شيء يستحق الحزن

blog ضحك

يقول علي عزت بيغوفتش بين الحزن واللامبالاة سأختار الحزن، وأنت أيضاً في مرحلة من حياتك يدفعك هذا الكوكب نحو الحافة ويضع أيامك على المحك.
 

بالتسلسل الطبيعي للمراحل تجد نفسك في وقت ما فاقدا السيطرة على مقود أمورك في منحدر مميت، ونسعى نحن -أي الآخرين- بطبيعتنا البشرية أن نخفف عمن حولنا ونتقمص دور البلسم والنسيم لعل هذا الجرح يصغر على أيدينا المشققة. ولكن من بين كل الطرق التي باستطاعتنا اللجوء إليها لإرشاد الآخر وهدايته إلى رشده وحياته، فإنه ذلك الصديق الطيب يصر بحمق أن يختار الحكمة الكاذبة ويضعها في أذن صديقه قائلا "انس الأمر، لا شيء يستحق الحزن لأجله". 

هذا سبب كاف لجعل الآخر يقدم على الانتحار دون تردد يذكر، وأنا لا أمزح، أتدرك خطورة ما تقول.. أتعي تماما معنى أن تعيش الكائنات ببوصلة مفقودة وشتات دائم، دعني أخبرك بأن هذه أسوأ عبارة قد تقال لتخفيف ألم القدر، لأنك بهذه الحكمة يا صديق تنسف هدف الوجود وكأنك تخبره علانية أن موته وحياته سيان، لا بل موته أكثر فائدة بدرجة كونه سيصبح نفطا جيدا لهذا الكوكب، يتصارع عليه الحمقى لاحقا، أما الآن والروح تسكن جسده فهو بلا منفعة تذكر. 

"لا شيء يستحق الحزن".. هذه أسوأ عبارة قد تقال لتخفيف ألم القدر، لأنك بهذه الحكمة يا صديق تنسف هدف الوجود وكأنك تخبره علانية أن موته وحياته سيان، لا بل موته أكثر فائدة

نحن البشر لا نملك أية مشاكل مع السعي المستمر نحو الأشياء، والأشياء هنا تعبير فضفاض ضع به ما شئت، والركض خلف ما نريد هو إحدى سماتنا، ونحن يا هذا بارعون جدا في الركض بل وبتواطؤ سري نرتاح لوجود ما نسعى لأجله مهما حاولنا ادعاء العكس، ثم تأتي أنت وتبشرني أنه ما من جدوى لركضي وأن لهاثي محض استهلاك زائد للأكسجين لتكون حينها خطواتي وإصابتي بالشلل شيء واحد، أنت حينما تخبره بذلك فأنت تحطم بوصلته، تمسك بقدمه وتغرقه في لج الحيرة بدلا من انتشاله، ودون قصد منك تضع يدك على ظهرك لتعطيه الدفعة التي يحتاجها ليسقط بدلا من أن تلصق باطن كفك بكفه المرتجفة وتسحبه. 

عدم وجود ما نحزن له تعادل القول بأننا لا نملك ما نفرح لأجله، أو ليس ما يفرحنا هو ذاته ما يحزننا إن سلب منا، وبهذا يكون نفينا للحزن مساو لنفي السعادة المختلسة ووضعنا تحت سطوة البلادة والتيه.
  

ما يدفعنا للاستيقاظ وإبعاد شباك النوم عن أعيننا هو ما يستحق الحزن، إن أصبح في خانة الفقد حتى لو رواغت وأخبرتني أنك لا تملك شيئا فكر مرة أخرى، عائلتك التي تحبها رغم أنك تعرف حق المعرفة كم هم مزعجين مثلا ولكنهم حقيقيون وطيبون، رؤية أطفالك غارقين في لذة النوم وشفاههم يحركها التنفس مما يجعلك ترغب في إلتهامهم، ألم معدتك أثناء لعب الورق مع أصدقائك بعد يوم عمل يفيض بمضايقات مديرك ببطنه السمينة، هواء الله في اللحظات التي تسبق اختناقك صيفا يسحبك من غياهب الجب إلى النور، ثمة مئات اللحظات يجب أن تعاش.
  

عدم وجود ما نحزن له تعادل القول بأننا لا نملك ما نفرح لأجله، أو ليس ما يفرحنا هو ذاته ما يحزننا إن سلب منا، وبهذا يكون نفينا للحزن مساو لنفي السعادة المختلسة ووضعنا تحت سطوة البلادة والتيه

مجموعة ليست بالهينة من كتب روايات وأفلام تستحق أن تقضي اللحظات الأخيرة من حياتك غارقا بها مؤجلا فكرة الانتحار، مثلا الآف الأطباق التي تجعلك تقسم أنها قد تسربت من الجنة مشاعر نبيلة وضحكات طيبة صلوات وتراتيل ثمة أحلام طفولتك والتي قد خنتها حينما تنازلت عنها ما زال بإمكانك تحقيقها، ولكن تكمن المشكلة أننا لا نعي أن الحزن والتعب أمران حتميان بل هما القاعدة وما دونهما استثناء، ولأسباب لا أعيها نصرعلى معاملة الحزن وكأنه دخيل أو مرض معد يفضل إخفاؤه بخطوات رجل آلي صدئ، وظهور صلبة لا تعرف الانحناء، وعيون جافة لم تقم الدموع فيها ليال.
 

 نابغية ننظر إلى التعب والحزن على أنهما تشوه، ما نعرفه عن السعادة والحزن والأهداف هو شيء بسيط وإدراكنا لهذه المفاهيم قاصرلا محالة، لأنها مفاهيم مراوغة ونسبية لذلك علينا أن ندرك مبكرا أن سعينا لأهدافنا مهما كانت ساذجة في حكم الآخرين هو ما يستحق الحياة، فهذا السعي محفوظ في اللوح عند الرب وأنه يراه وهذا عزاء كاف.

أذكر في مشهد عظيم من فيلم يقول فيه البطل جملة خالدة الموت ليس عدوا أيها السادة، إذا كنا سنحارب مرضا فلنحارب واحدا من أفظع الأمراض اللامبالاة، الغريب أن قائل الجملة في الفيلم مات قبل مدة منتحرا إذ يبدو أن لا مبالاته تمكنت منه، لهذا لا تصغ لهذا الصديق الأحمق ومزق تلك الحكمة المزيفة، ثمة هنالك ما لم نره بعد، وهذا ما يستحق أن نحيا الحياة بكل طقوسها لأجله، وأن تروي التجربة أعمارنا ما دام أمر الروح الإلهية فينا يدور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.