شعار قسم مدونات

سقوط الديكتاتور

blog بن علي

أبي رجل قاس، مات والده على ظهر حمار وهو في طريقه للعلاج بالعاصمة، دفن جدي في مقبرة الجلاز من قبل السلطات البلدية لقلة ذات اليد، ولم نعرف لقبره سبيلا، ثم شاءت الأقدار أن يصبح أبي رب العائلة ويعيل أمه وأخواته الأربع خلال فترة الاحتلال الفرنسي لتونس ولم يبلغ السادسة عشرة سنة بعد.

نزح أبي إلى تونس العاصمة وعمل في كل شيء تقريبا، قبل أن يهاجر للعمل بالقطر الليبي الشقيق في حظائر البناء، وقد ترك أمي مع أمه وأخواته، كانت أمي تتوسل لامرأة متعلمة كتابة رسائل لزوجها طيلة خمس سنوات، والويل لها كل الويل إن وقع المكتوب في يد أحد إخوانه أو أمه، كان من العيب كل العيب أن تكتب رسالة حب لزوجها المهاجر.

لم يدخر أبي الإسكافي جهدا في إبعاد الشبهة عنه وإظهار وطنيته الخالصة للحزب الحاكم

لم تكافئ الحياة أبي المتعب وتم طرده من قبل السلطات الليبية بعد حرمانه من جميع مستحقاته، وقد حرص العقيد معمر القذافي آنذاك إثر خلافه مع بورقيبة وأحداث قفصة المسلحة، وأصر على إذلال التونسيين المقيمين بليبيا حتى وصل بهم الأمر أن عرضوا على التونسيين أخذ مستحقاتهم بمجرد الدوس بأقدامهم على بطاقة التعريف التونسية، لكن أبي رفض ورفض الكثيرون مثله فعادوا بخفي حنين.

عاد أبي للعيش في تونس وباع سيارته وكل أملاكه إلا من منزل بسيط داخل حي شعبي، ثم فتح محلا لتصليح الأحذية، ولن أخصص هذه التدوينة للحديث عن حياته. سأحدثكم عن العيش في ظل الدكتاتورية.. لم يدخر أبي الإسكافي جهدا في إبعاد الشبهة عنه وإظهار وطنيته الخالصة للحزب الحاكم، حيث حرص على الحصول على بطاقة انخراط في الحزب الدستوري الحاكم حتى يتقي بطش هؤلاء، وحرص على حمل البطاقة الحمراء في محفظته أينما ذهب ثم علق صورة الرئيس الحبيب بورقيبة في حانوته.
 

أذرعته وآذانه الممتدة في أنحاء البلاد جعلت من أبي جبانا يحلق لحيته كل صباح حتى لا يقال إنه من حركة النهضة أو إخونجي كما يحب أن يسميهم بن علي وقتها

وسرعان ما غيّرها بنجاح انقلاب بن علي سنة 1987 ورأيته يلقي بصورة الرئيس المخلوع على عجل ثم علق صورة لشاب يافع سخر العلماء لتصويره باستخدام نظرة الموناليزا، ولازلت أذكر صورة بن علي تلك، صورة رافقتنا لثلاث وعشرين سنة كاملة، كنا نراها في كل مكان تقريبا وحتى داخل بيوتنا نفس الصورة، نفس الملامح، نفس النظرة الواثقة.
 

كبرنا ولم يكبر بن علي، هرمنا ولم نر الشيب في رأس بن علي، حتى تقارير الأخبار كانت مدروسة جدا، نفس العلم الذي يرفرف، صورة بن علي وهو يكلم وزيرا مطأطئ الرأس يتلقى التعليمات، نفس الموسيقى الحماسية.

كرس أبي حياته لتربيتنا بالمال القليل وبذل كل الجهد لعلاجي من مرض الربو طيلة سنوات، خوفه على عائلته جعله ينخرط في الحزب الواحد الأحد، بن علي الذي نجح في الانتخابات المزعومة بـ99%، أذرعته وآذانه الممتدة في أنحاء البلاد جعلت من أبي جبانا يحلق لحيته كل صباح حتى لا يقال إنه من حركة النهضة أو إخونجي كما يحب أن يسميهم بن علي وقتها.
 

 كانت كلمة إخونجي أو الانتماء لتنظيم أو حزب آخر غير التجمع تهمة يشيب لها الولدان، وتناقل التونسييون قصصا وروايات مرعبة عن أمن الدولة وعن الإخونجي الذي قطع إربا إربا ثم صهر مع الحديد الساخن.
 

كان بن علي يحكم بقبضة من حديد سلاحه القوادة وله أعين وآذان في كل مكان والويل كل الويل لمن تسول له نفسه التكلم على بن علي أو زوجته أو أصهاره، وكان أبي حريصا كل الحرص على تقمص دور الوفي للتجمع الدستوري الديمقراطي، وكان يحضر في التظاهرات ويساهم بالقليل في صندوق 26/26 ذلك الصندوق الذي كانت عائداته تصرف في ملاذات كثيرة، لا لمساعدة الفقراء.

ثم جاءت قناة الجزيرة..

وللحديث بقية..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.