شعار قسم مدونات

"الجميلة المستحيلة".. جامعة الخرطوم

blogs - sudan
عندما غنى فنان إفريقيا محمد وردي "الجميلة المستحيلة" للشاعر السوداني محجوب شريف، لم يكن يعرف أنها ستصبح أهزوجة تصف أعرق المؤسسات التعليمية السودانية.. جامعة الخرطوم، "يا جميلة.. ومستحيلة.. أنتِ دايمًا زي سحابة ..الريح تعجل بي رحيلها.. عيوني في الدمعات وجيلة.. أسمحيلا تشوف عيونك.. أسمحيلا"، كل من عاش في السودان يعرف سرّ هذا التوصيف، نظرًا لمعايير القبول التنافسية الصعبة، ونظيرتها قُبيل التخرج.

جمعت جامعة الخرطوم الجمال من جلال الاستحالة، وهي أيضًا رمز من رموز السودان السياسية، بل الأيقونة الأهم للحركات التحررية في الوجدان السوداني، فلو أردت أن تتعرف على تاريخ البلاد السياسي الحديث من صفحة واحدة، فما عليك إلا المرور بجامعة الخرطوم وتلمّس جدرانها العريقة التي شهدت منذ عام 1902 كل الظواهر السياسية المتتابعة.

في كل تلك الفترات التي تشكلت فيها القوى السياسية كان التغيير الأول يبدأ في الـ "جميلة المستحيلة"، رأس الحربة في الوعي السياسي السوداني

ليس انفجار ثورة أكتوبر 1964 فحسب، أو انتفاضة أبريل 1985 فقط، بل نشوء الحركات التحررية الثورية، تجاذبات الأحزاب المعارضة، ولادة التنسيقات الطلابية المثيرة للجدل التي استطاعت قلب مسارات الحكم مرات عدة، جميعها تحولات سياسية مفصلية سمع هديرها الأول في جلسات نقاشية داخل حرم جامعة الخرطوم.

في جامعة الخرطوم سيمر أمامك شريط لكل أطياف طلاب هذه الجامعة العريقة، منذ إنشائها باسم كلية غوردون التذكارية من قبل اللورد كتشنر أثناء فترة الاستعمار البريطاني، حتى إلى ما بعد تحويلها لمسمى جامعة الخرطوم بعد استقلال السودان مطلع يناير 1956.

ومع ظهور حركات الوسط السياسي في الستينيات برزت الأدوار السياسية بشكل أكبر، من مؤتمر الطلاب المستقلين في السبعينيات وصولا إلى حركة الطلاب المحايدين في الثمانينيات انتهاء إلى طلاب الجبهة الإسلامية مع ما عُرف بثورة الإنقاذ في بداية التسعينيات. كم حدث غير وجه السودان وتنازعت حوله الأطراف في كل تلك الفترات! كان التغيير الأول يبدأ في الـ"جميلة المستحيلة"، رأس الحربة في الوعي السياسي السوداني.

ولِما تحمله جامعة الخرطوم من رمزية سياسية في حركات التغيير وذاكرة النضال، عدّ الكثير من المتابعين قرار بيع مقرات الجامعة مؤخرا الذي أثار حنقا واسعا تصدى له الطلاب بجسارة معهودة، عدّوه قرارا بتفكيك الحركة النقابية من جهة وطعنا للإرادة الطلابية السياسية من جهة أخرى.

لم أنقطع عن زيارة السودان رغم مغادرتها منذ ست سنوات، ما زلت أكمل الدراسات العليا هناك ولكن في جامعة أخرى، كنت أحرص مع كل زيارة على المرور بجامعة الخرطوم على ضفة النيل الأزرق.. أسأل نفسي دائمًا كيف يمكن لمبنى جامعي صامت، كيف يمكن أن يروي كل قصص الغياب؟ يقال إن من شرب من ماء النيل لابد أن يرجع له، وكذا جامعة الخرطوم من زارها لابد أن يعود إليها محملا بالشوق والعتاب والسؤال وربما الكثير من البكاء.

عُلقت الدراسة في جامعة الخرطوم منذ مايو/ أيار الماضي بسبب ما شهدت الجامعة من مظاهرات طلابية غاضبة احتجاجا على توارد أنباء عن نية الحكومة تحويل مقرها الحالي إلى موقع سياحي. تم استئناف الدراسة في بعض الكليات خارج "سنتر" الجامعة، بالإضافة لاستكمال الملتحقين ببرامج الدراسات العليا. الجامعة شبه مغلقة لكن زيارتها غير ممنوعة.

مررت بالجامعة قبيل وقت المغيب بفترة وجيزة، كانت الساعة تشير للخامسة وأربعين دقيقة، دخلت إلى المبنى من أقرب بوابة متاحة، أوقفني رجل بلباس مدني مستفسرا عن سبب قدومي، أجبته "الحنين"، السبب غير كاف، لماذا أنتِ هنا؟ حسنًا أريد أن أسأل الجامعة عن حال السودان، ربما عدّني مصابة بالخبل. طلب مني المغادرة فورًا، أجبته بحزم يجب علي الدخول لأني مسافرة إلى الدوحة بعد ساعات ولن أغادر دون السلام على الجامعة!

هنا لا أدرى ماذا أصاب الرجل، صرخ بي وسط جمهرة من الطلاب، أفزعني الأمر ليس من عادة السودانيين ولا من مروءتهم المعهودة التهجّم على غريب، إلا أن الالتباس زال سريعا حين صرّح "إنتي قايلاني مواطن زي زيك؟" وهنا يقصد أنه من رجال الأمن المتسترين بلباس مدني، رجل مخابرات بثقافة عربية أخرى، لم أتمالك نفسي أمام صفاقته أجبته بهدوء "وكان بقيت أمن وكان بقيت عسكر، انت والأكبر منك خدم للمواطنين!".. اشتاط غضبا وهبّ للإساءة أكثر لولا تدخل الطلاب المجاورين لمنعه عني، لا أنسى ذاك الشاب الذي كاد يضربه، لم أستطع متابعة العراك، سحبني شاب آخر من المكان، ثم أسرّ إلي أن هناك بوابة أخرى أستطيع الدخول منها رغما عنه.

بالفعل، قمت بإدارة السيارة وتحركت نحو بوابة هندسة الخلفية التي أشار إليها الشاب، أوقفني رجل آخر هذه المرة، رفض دخولي الجامعة بحجة مختلفة ليست من اختصاصه، وبين قلقي من عدم اللحاق بالطائرة والسفر دون الوقوف في حرم الجامعة بدأت في مفاوضة الحارس، ما أسباب المنع هات ما عندك وأنا لن أبخل عليك بشيء حتى لو اضطررت لدفع المال، "البنطال في الجامعة ممنوع!" عجيب..

الجدران التي لطالما كانت تحفل بما يقض مضاجع الظُلّام، استبدلت بها اليوم لوحة زرقاء كتب عليها "عفوًا .. ممنوع وضع الملصقات"

الجامعات والشوارع السودانية تعجّ بالنساء اللائي يرتدين البناطيل مع القمصان الباكستانية الطويلة، شكل السودان تغير كثيرا عمّا كان عليه قبل عشرين عاما، لكن مازال هذا البنطال ذريعة التدخل في لحظة يتحكم فيها فقط مزاج العسكر، حتى وإن كانت نسائهم أنفسهم من مرتديات البنطال، يظل القماش الذي ترتديه النساء ذريعة بائسة للتسلط والاستبداد.. لم أجادل كثيرا هرعت إلى السيارة من جديد، جلبت عباءة الأزمات التي أحتفظ بها في المقعد الخلفي لإنقاذ الموقف، ارتديتها فوق بنطالي الواسع، فسمح لي بالولوج أخيرا.

أنا الآن في جامعة الخرطوم.. كنت كجنين لم يكتمل نموه وإذ به يعود إلى رحم أمه، بدت الجامعة كسيرة النفس، أم حزينة خُطف منها أبناؤها الصغار، حتى شارع النشاط الذي استظلّ فيه الشباب السوداني مع إصداراتهم الخاصة من صحف وجرائد وقصائد كخلايا نحل لا تهدأ، كان صامتا متخما بالخيبة.. لا يرى فيه إلا رجالات أمن منتشرين بين طلاب يعدوّن على أصابع اليد الواحدة. أما الجدران التي لطالما كانت تحفل بما يقض مضاجع الظُلّام، فاستبدلت بها اليوم لوحة زرقاء كتب عليها "عفوًا .. ممنوع وضع الملصقات".

في زاوية قصية بِضع وريقات لم تنزعها الرقابة بعد "مقتل طالب مقتل أمة"، " نار النضال ما بتنطفي، نار النضال بتميع العود الطري" وجدت نفس أكمل النص بصوت مصطفى سيد أحمد "والغربة قاسية ومُرة تبّ.. والغربة نار.. والغربة ما غربة وطن الغربة غربة زول بكابد شان يوفر ليك سكن.. الغربة غربة حق ضايع وزول مهمش، الغربة غربة شعب مستلب الإرادة.. الغربة ما غربة وطن".

أكملت المسير بخطوات مثقلة، حفيف الأشجار الغزيرة كان الصوت الوحيد الذي أسمعه، كان المغيب يوشك على إلقاء تميمة المساء، غيمة مُسكرة بالحزن لبدت ظلّ اللحظة عنها، أحاول تأمل المبنى وجمع آخر الصور في الذاكرة لأقتات عليها مع الاغتراب.

فجأة انتبهت من بعيد لخيال رجال يركضون نحوي، فهمت من جلبة أصواتهم المنادية أن هناك أمرا بتوقيفي لدخول الجامعة، إنه رجل الأمن في البوابة الأولى مع رجال آخرين، لم يكن تصرفا حكيما .. أعلم، لقد أطلقت قدمي بالفرار، رحت أركض في حرم الجامعة وأنا أصلي أن لا أتعثر بالعباءة، أركض دون توقف وثقتي معدومة بعدالة ما سيحدث لو أمسك بي هؤلاء، يصرخون من خلفي بأن العاقبة وخيمة وما زلت أمعن بالركض أكثر، البوابة مغلقة دلفت نفسي من طرفها الذي لا أعرف كيف مررت عبره حتى اللحظة، قفزت إلى العربة قبل أن يوشك الرجال على توقيفي بثوان معدودة، قدت بجنون وأنا أراقب صورهم في المرآة تصغر وتصغر وتصغر معيدة أحجامهم إلى وضعها الطبيعي.

لم أستمع لوردي هذه المرة، كانت القصائد تعزف شجنا قتّالا ودمعي لا يقف "يا حليل زمان البقولو أمنك مستتب، هسى الجيوش تدخل تهاجم بالضرب.. بمبان يطير دق من طرف.. برلوم يقع.. برلومه دمعها انسكب.. وطن العلم قلبوه ساحات للحرب.. وين الجميلة المستحيلة الكان زمان؟ وين البموتو، بموتو عشانا حب.. هذا زمانك يا مهازل.. فيا مهازل فامرحي..".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.