شعار قسم مدونات

بلادي وآثام التكنولوجيا

blog تكنولوجيا

كان لي يوما صديق فاشل في كل شيء، مبهر في كل شيء، يسمع النشرة مثلي، لكن لا يرى الأشياء مثلي، عاشق للتكنولوجيا، عقله حاسوب في تركيبه، يعشق الأرقام والميتافيزيقيا .

كان لا يؤلمه منظر الطفل القتيل بقدر ما يهمه سرد مواصفات السلاح الذي قتله ونسبة الدم الذي يكون قد خرج منه حتى مات ومن صنع ذلك السلاح ومنذ أي حرب استخدم وأطواله وأبعاده ومخزنه.. يتكلم بلا فواصل بلا نقاط بلا إشارات تعجب أو استفهام، أستغرب كيف لهذا الحاسوب أن يفشل في دراسته، باختصار جعلني أكره شيئاَ يسمى الإحصاء، وخاصة أني لا أراه إلا محبطاً، لم أكن أعرف لإحباطه سبباً.

بلادنا العربية تنفق كمعدل أقل من 1% من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير بينما يبلغ المعدل في أفقر دول الاتحاد الأوربي 2%

ولكن العرق العربي الذي لا يستطيع إلا أن يقيم كل شيء بنسبة مئوية مؤكدة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها مع أنها في تسعين بالمئة من الحالات تلقى جزافاً، ساقني يوماً لأبحث عن أسرار تسمي كثير من حكام بلادنا العربية والإسلامية بألقاب فخمة مثل بناة عصر التكنولوجيا الحديثة، ورواد المعلوماتية، وإلى ما هنالك رغم أنهم كانوا يقولون عن الكمبيوتر "أتاري"، كان لا بد لي أن ألتقط شيئاً من داء أخينا المذكور آنفاً.
 

لفت نظري تلك الدويلة الآسيوية الصغيرة التي تستحوذ على ثمانية بالمئة من براءات الاختراع العالمية.. كوريا الذي تحتاج إلى مكبر لتظهر على الخريطة، فقلت لعمر الله ما حصة بلادنا من هذا الشرف؟ لم أتفاءل كثيراً حين علمت أن ألمانيا بحجمها ذاك، نصيبها 2.5% من تلك البراءات، بينما لم تبلغ حصة دول العالم الإسلامي سوى 35 ألف طلب لبراءات الاختراع، وهو مانسبته حوالي 1.5% من طلبات براءات الاختراع العالمية لست وخمسين دولة، أي أن كوريا تنتج ما يعادل افتراضيا ثلاثمئة وثلاثين دولة إسلامية !! 

كنت أقرأ دائما في مناهج حزب البعث، التي حررها باني سوريا الحديثة ورائد المعلوماتية وعصر السرعة، ولم يكن من جهوده طبعا إلا أن ولد في عصر العولمة، فحاول تأخيرها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، هذا قبل حدوث ثورة الأخضر واليابس، أن البحوث العلمية والتكنولوجية هي الرائد للابتكار والاقتصاد القائم على الإبداع والتجديد، وتعكس كثافة البحوث والتطوير قدرات الابتكار في البلاد، ويعني ارتفاع كثافة البحث والتطوير أن معظم الموارد مكرسة لتطوير منتجات وآليات جديدة.

كانت بلادنا العربية تنفق كمعدل أقل من 1% من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير بينما يبلغ المعدل في أفقر دول الاتحاد الأوربي 2% بينما المتوسط العالمي قراءة 2.5% منها دول إفريقية، علما أن أقل معدل مستهدف عالمياً هو 1%.
 

الدول الإسلامية جمعاء في 2015 نشرت 109 آلاف بحث وهذا العدد لا يبلغ ربع العدد الذي تنشره دول صغيرة مثل اليونان وحدها

أما البحث والتطوير الذي تقرع آذاننا فيه إذاعات الصباح كل يوم والتي تردد على مسامعنا أن بلادنا تدعم الباحثين والمؤهلين تأهيلا عاليا لتشجيع الابتكار وتعزيز التنمية العلمية والتكنولوجية، فتبين أن لدى الدول الإسلامية مجتمعة 615 باحثاً من مليون شخص في المتوسط، بينما يبلغ المتوسط العالمي 1604 باحثين لكل مليون شخص والفرق هنا ألف باحث فقط عن المتوسط العالمي..

قلنا لعل الأداء ينعكس في البحوث الأكاديمية بصورة دقيقة إلى حد ما، وعدد المقالات العلمية المنشورة في المجلات المحكمة، فتبين أن الدول الإسلامية جمعاء في 2015 قد نشرت 109 آلاف بحث وهذا العدد لا يبلغ ربع العدد الذي تنشره دول صغيرة مثل اليونان وحدها.

لقد شطحنا بعيداً حين بدأنا بالتكنولوجيا المتقدمة ولم نتكلم عن جوهر تكوين القوى البشرية والركيزة الأساسية لتنمية المجتمعات وهو التعليم، العلوم والتكنولوجيا والتقدم والبحث والتطوير هي برأيي تحصيل حاصل هي مسائل حسابية متى بدأت بأولها تصل تلقائياَ إلى آخرها ولا تحتاج إلا إلى بذل الجهد وتفريغ الوقت، ولكن لا تؤتي أكلها إلا إذا رافقها الإبداع والتسخير، وهذا لا يتأتى إلا من خلال المنظومة التعليمة الرصينة، أما العقول المقولبة في قوالب فكرية جامدة فقد تنتج أرقاماً رياضية لكن من الصعب أن تبدع، أن تطور بلداً، أن تكون رائدة.

لا أريد أن أستغرق في تشريح المنظومة التعليمية في بلادنا ولكن أود أن أوجه برقية اعتذار إلى صديقي قائلاً: بعد أن تلطخت بأدواء الأرقام وآثام التكنولوجيا بدأت أتفهم سر إحباطك ياصديقي، ما أنا وأنت والتكنولوجيا إلا فقير باع ابنه لفقير فاشتراه بالدين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.