شعار قسم مدونات

أيام الجزيرة توك..

blogs - tal
 
لعلّ البعض نسي "الجزيرة توك" ومدوناتها، فما أكثر المُدونات التي كُتبت بعدها، ولكنني لا أنسى ولا يُمكنني النسيان، بل إنني ما زلت أذكر ظُهور ذلك الرقم الطويل مع مُقدمة +974 على شاشة هاتفي المتواضع، وكم سُررت يومها لأنني تلقيّت اتصالاً من قطر، بل من العالم العربي وأنا أتسوّق في أحد المتاجر "الإسرائيلية" في فلسطيننا المُحتلة.

كان المُتصل يومها "أحمد عاشور" وكان يُبشّرني بأنه تم قبول أول مُدوّناتي للنشر في الجزيرة توك، طرت فرحًا يومها، فلطالما حلمت بلحظة أكون فيها من الجزيرة توك وشبابها الذين حققوا نجاحًا مُبهرًا في التدوين على مُستوى العالم العربي بل وحتى العالم في ذلك الوقت.

لو كان الأمر بيدي لما سميّته موقع الجزيرة توك، بل "مدرسة الجزيرة توك" فلم أقرأ ما يُكتب هناك بهدف التسلية والمتعة، ولكن بهدف تعلّم أصول الكتابة والتدوين

كانت تلك المُكالمة في عام 2008، ولكن بدايتي الحقيقيّة التي لا يعلمها أحمد عاشور نفسه كانت قبل ذلك بعام، حين صارت الجزيرة توك فرضًا يوميًّا بالنسبة لي، ولكوني فلسطينيا من "الداخل" كانت فكرة التواصل من "العالم العربي" الكبير تأسرني ولا تزال، ولم يكن هذا فقط ما يربطني بالجزيرة توك، فقد كانت زاوية خاصّة في المُنتدى تُدعى "مراسلو الجزيرة توك" وكُنت أشعر بأن "النخبة" فقط من تكتب هناك، ولذلك كُنت أشعر بالرهبة وأنا أتجوّل وأطالع ما يكتبه أولئك التوكيون الأفذاذ.

ولم أكن أستغرب يومها أن الجزيرة توك حصلت على جائزة البوبز العالمية، ولو كان الأمر بيدي لما سميّته موقع الجزيرة توك، بل "مدرسة الجزيرة توك" فلم أقرأ ما يُكتب هناك بهدف التسلية والمتعة، ولكن بهدف تعلّم أصول الكتابة والتدوين.

ثقتي بقُدراتي في الكتابة كانت قد تزعزعت كثيرًا أيام المدرسة، فكثير من أساتذتنا لا يعتبرون الكتابة "كتابة" إلا إذا كانت مُنمقة كتلك التي تبدأ بـ"وأرسلت الشمس أشعتها الذهبية لتُعلن إشراقة يوم جديد"، ولهذا كُنت أرى أن الكتابة ليست لي ولا أنا لها، إلا أن شعور "الاغتراب عن الذات" الذي لازمني منذ 2005 كان يشدّني إلى الكتابة والكُتب أكثر من أي شيء آخر.

ولكن المُبهر في كُل هذا أن أقلام الجزيرة توك، كانت مختلفة، فلم تكن الكتابات فيها تقارير صحفية جافةّ ولا مقالات رأي مملة ولا مدونات شخصيّة بحتة، ولكنها كانت خليطًا عجيبًا بين هذا كله، وهو ما علمني إياه أحمد عاشور في أول مُكالمة هاتفية وبقي راسخًا في ذهني، وما زلت أحب هذا اللون من الكتابة "التوكيّة"، وبه كتبت عن الدراسة في الجامعات الإسرائيلية وصعوباتها بالنسبة للفلسطينيين في الداخل ونُشر ذلك بتاريخ 18 نيسان 2008 وهو تاريخ من أهم محطات حياتي.

في تلك الأيام كنت أذهب إلى تل أبيب في الصباح لأدرس الهندسة التطبيقية في الماكينات والسيارات، وأعود في المساء لأدوّن مُعاناتي مع القطارات والتفتيش والدراسة بالعبرية حتى تعليقاتي على صحيفة "يسرائيل هـ يوم" التي كُنت أقرؤها في القطار كل صباح، ثم أرسل كل ما أكتب للجزيرة توك للنشر فتُنشر أحيانا وترفض أحيانا أخرى من أجل إجراء تعديلات بسبب أخطاء إملائية وضعف في التعبير وكان ذلك من أجمل ما في الجزيرة توك التي مكّنت أمثالي من أن يدرسوا الإعلام الجديد وفلسفته بشكل تطبيقي وواقعي بعيدًا عن روتين الجامعات.

ولعل الأجمل من الكتابة في الجزيرة توك، هم "التوكيون" أنفسهم، لقد جمعت الجزيرة توك ثلّة من المدونين من كل أنحاء العالم وكانت لهم غُرفة خاصة في "المنتدى" يتبادلون فيها أخبارهم، وهي أبعد ما تكون عن ضوضاء الفيسبوك التي نعيشها اليوم.

إن كان هناك درس يستحق أن نتعلمه من الجزيرة توك فهو أن التدوين ليس مجرد كتابة، فما أكثر المواقع وما أكثر الكُتاب، ولكنه الانتماء

كنا نتبادل الدروس والطرائف والملاحظات والأخبار السارة والمُحزنة بشكل خاص بيننا، وهو الأمر الذي جعل الجزيرة توك حينها أشبه بعائلة وليس مجرد موقع تجتمع فيه كتاباتهم كما هو الحال مع كثير من المواقع اليوم، بل والأطرف أننا كنا نلقب أحمد عاشور الذي كان يدير الجزيرة توك حينها بـ"أبونا".

وكنا نفرح لإنجازات الجزيرة توك أكبر بكثير من فرحة الواحد منا بعدد التفاعلات مع مدونته الخاصة.
لست أكتب كي أقول إننا بحاجة إلى جزيرة توك جديدة، فقد أصبحنا اليوم كلنا ذلك "الصحفي المواطن" الذي مكثنا ندندن حوله أيامًا طوالا منذ عام 2006، كما أن المواقع التي يُمكن للمرء أن يكتب فيها مدونات أكثر من أن تحصى، هذا غير أن التدوين من خلال الفيسبوك وتويتر وسنابشات بات أسهل بكثير، إذن فما المشكلة؟

إن كان هناك درس يستحق أن نتعلمه من الجزيرة توك.. فهو أن التدوين ليس مجرد كتابة، فما أكثر المواقع وما أكثر الكُتاب، ولكنه الانتماء إلى مجتمع من المُدونين لهم تواصلهم الخاص فيما بينهم بعيدًا عن ضوضاء مواقع التواصل الاجتماعي التي تُبعدنا ولا تقربنا أحيانًا كثيرة، يتبادلون النقد والخبرات.. كما يتبادلون التعازي والتبريكات بل وحتى الزيارات.

فليس هناك أجمل من أيام كنت أخرج فيها بسيارتي إلى الضفة الغربية كي التقي "شلّة" من التوكيين في رام الله أو نزور زميلاً في بيت لحم، والأكيد الأكيد أنني لا أنسى لقائي بالتوكيين في الدوحة، بل إن من بركات الجزيرة توك أن بعض "التوكيين" زاروني في ألمانيا.. قبل فترة وجيزة فقط!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.