شعار قسم مدونات

نحو مدن غبية

blog مدن

الغباء والذكاء هي صفات بشرية بالدرجة الأولى، كما أنها صفات يمكن رصدها في بعض الحيوانات والنباتات بصورة أقل شمولية وتعقيدا عن الحالة الإنسانية، أما الجماد أو الآلة فلم يكن هناك مبرر لوصفها بالذكاء، إلا بعد ظهور خط بحثي في أشهر معامل التقنيات الرقمية في العالم يتناول مفاهيم الذكاء الاصطناعي.
 

إن مصطلح المدينة الذكية ابتكار نشأ سنة 2000 واشترك في صياغته المنظرون والاجتماعيون والمخططون العمرانيون، بغرض التوصل إلى تغييرات تقوم على تقنيات جديدة تستخدم في المدن.
 

تنبع فكرة المدينة الذكية من استغلال التقنيات الرقمية في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المدينة، إلا ان الفاحص المدقق يرى وجوب تقديم تصورا نقديا لفكرة المدن الذكية لتقييم تأثيرها الفعلي على جودة الحياة، وخاصة شقها الإنساني الاجتماعي، وأن يتاح لنا في الشرق الأوسط أن نفكر في جدوى تطبيق هذه الأطروحة، خاصة بعد أن تحولت فكرة تحويل المدن العربية إلى مدن ذكية إلى هدف منشود دون طرح نقدي متكامل.
 

لقد بزغ مفهوم المدينة الذكية منذ أكثر من عقد، وما لبثت مدن عديدة في العالم أن أخذت بوهج نموذج المدينة الذكية ووصفت نفسها بصفة "الذكاء"، ويتضمن التعريف الأكثر قبولا للمدينة الذكية أنها نطاق حضري يستخدم التكنولوجيات لتحسين نوعية وأداء الخدمات العمرانية الحضرية، للحد من التكاليف واستهلاك الموارد، وإشراك أكثر فعالية ونشاط مع مواطنيها، ولكن الاشكالية البارزة أن التركيز على ذكاء المدن أغفل تساؤلا هاما عن دور الذكاء الذي ارتبط حصرا باستعمال تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، في تحقيق استدامة الحياة بالمدينة وضمان توفيرها لحياة أفضل لسكانها وزوارها.
 

نحن نخطط المدن لكي يعيش الإنسان مع أخيه الإنسان وليس مع رفيقه الرقمي المحمول

بعد مرور أكثر من عقد على نشأة مفهوم المدن الذكية، فإننا نلاحظ محدودية هذا المفهوم على محاور أساسية لها علاقة بتفاعل سكان وزوار المدينة مع تقنيات الاتصال الرقمية والحركة وتنسيق التصرفات المالية.. وهذا الفهم الضيق يقلل من قيمة الذكاء بمعناه الأشمل، كما أن تقليص وصف المدينة بالذكاء على معرفة استخدام التليفون المحمول في إيجاد أقرب مطعم أو محطة وقود، هو طرح غير منصف، لأنه لا يقدم دلائل على نوعية الحياة الإنسانية في هذه المدن.
 

إن المدينة الذكية في الطرح السابق تجعل التواصل والتفاعل الإنساني غير مطلوب، بل قد يكون مضادا لوصفها بالذكاء. هذه هي الأزمة الحقيقية في أن يميل بعض المحللين إلى تضييق مفهوم المدن الذكية لاستخدامه لوصف مكان يستفيد بشكل كبير من استخدام تكنولوجيا المعلومات وحصرها بالهواتف الذكية أو البطاقات الذكية، أو المنازل الذكية أو أي "شيء" ذكي.. ومن ثم فمن الصحيح أن وسائل الاتصالات الحديثة وتكنولوجيا المعلومات تساهم في تحسين أداء المدن بشكل أفضل، ولكن هل تؤدي فعلاً إلى جعل المدينة أكثر ذكاء، وهل تجعل حياة الإنسان أفضل؟
 

حيوية المدن الغبية
عندما يسأل الإنسان عن رأيه في مدينة يسكنها أو يزورها، يتبين لنا أن درجة ذكائها أو غبائها ليس المحور الأول للاهتمام والتركيز، ولكن الأهم هو أسلوب الحياة بها ونوعية الفراغات العامة ومنطق الحركة بالمدينة وخلال فضاءاتها المختلفة.. أيضا قدرة المدينة على استقبال الموزاييك البشري واستيعابه، وتحقيق فرص التفاعل والتواجد المشترك.
 

يركز الساكن أو الزائر على ثراء أصوات المدينة وألوانها وروائحها ووجوهها، هذه الأبعاد يصعب ظهورها على شاشة التليفونات الذكية، ولكنها هي التي تخلق حالة الوجود بين الإنسان والمكان، المدينة ليست فقط المباني والخدمات وإنما بالمقام الأول الإنسان، ولنتذكر دائما مقولة شكسبير "ما هي المدينة إلا البشر".. ومن هنا تبدأ فرضية هل المهم أن توصف المدينة بالذكاء أم أن يوصف سكانها وزوارها بالذكاء؟
 

مقابل شرذمة وتفتت وفردية المدن الذكية في تصورها الحالي، فإننا نطرح تصورا للجيل الجديد من المدن الذكية الذي يجب أن يتجاوز الأجيال السابقة التي اعتمدت فقط على الجوانب التكنولوجية، هذا الجيل الجديد يجب أن ينتج مدن انتماؤها الأكبر، وتوجهها الأعظم، إلى ونحو المواطن/الإنسان.. هذا هو الجيل الذي يجب أن تكون أولويته استقطاب واحتضان المواطنين والزوار.
 

إن التواصل مع "اللامتواصلين" هو التحدي الحقيقي الذي تقابله المدينة المعاصرة، المدينة الذكية هي التي ستقدم أنماطا للتواصل الإنساني تتجاوز التواصل الرقمي على الهواتف والألواح الذكية، وستطرح أنماطا وأنساقا تعتمد على التواصل الحقيقي الحسي.
 

المدينة الذكية هي التي تشجع المواطن ليفعل ذكاءه وإبداعه في تقديم أنماط وأفكار وتصورات جديدة في حيه أو مجاورته، وهي المدينة التي تحرص على إشراك الإنسان من البداية في إعداد مخططات وتصورات البيئة المبنية، المدينة الذكية هي التي تعني بفراغ الفرد وأيضا بالفراغات العامة التي تصيغ الحياة الفردية والجماعية في المدينة، وهي المدينة التي تستخدم عمرانها وعمارتها لتجعلك ترفع وجهك عن تليفونك المحمول الذكي أو اللوح الرقمي، وتفسر هذه الأماكن تصرفها بالحرص على مستوى آخر من الديناميكية الإنسانية.
 

المدينة هي سكانها، فنحن نخطط المدن لكي يعيش الإنسان مع أخيه الإنسان وليس مع رفيقه الرقمي المحمول.. إن الأمثلة المذكورة هنا توضح مبادرات مواطنين أذكياء لتقديم أطروحات بديلة لجعل مدنهم أكثر ذكاء في احتواء المجتمع.
 

من الأمثلة المثيرة، حالة مدينة فينيسيا في إيطاليا، وهي المدينة التي لا تتصف بالذكاء تبعا للمعايير الحالية، ولكنها واحدة من أكثر المدن حيوية واستقبالا للسائحين والزوار.. هل يمكن أن تصف مدينة بالغباء لأنها مثل فينيسيا تحرضك على أن تضل طريقك وتستكشف المدينة بأبعاد جديدة؟
 

حالة مدينة بورتلاند بولاية أوريجون في الولايات المتحدة، وقدرتها على تحويل الفراغات الأكثر برودة وهي مواقف السيارات إلى فراغات مفعمة بالحيوية والنشاط بعد أن أحاطتها بعربات الطعام، هو مثال آخر على نوعية أخرى من الذكاء لا ترتبط بالتكنولوجيا على الإطلاق، ولكن دافعها الوحيد أن تظل المدينة مفعمة بالحياة ويستمر الناس في التواصل والتفاعل.
 

من الخطأ أن نصف مدينة بالذكاء وهي تخلق حالة من الانفصال والتشرذم والفردية بين مجتمعها، وقد يجوز أن تفخر مدينة بأنها غبية لأن أهلها متفاعلون

من الأمثلة المبهرة أيضا كيفية إيمان المدينة الذكية باستخدام التكنولوجيا في المطالبة بالتحول من الافتراضي إلى الحقيقي، والحرص على التواجد المادي للإنسان في الفراغ العام.. تأمل حالة مظاهرات باستخدام تقنيات "الهولوجرام" أمام برلمان أسبانيا للمطالبة بحق التظاهر الذي حرمته السلطات، هنا ذكاء مختلف لأنه استخدم التقنيات الجديدة للمطالبة بحق الوجود والانتماء للفراغ العام حتى في حالات التظاهر والتعبير السلمي عن الرأي.
 

إن التحليل السابق أوضح أن الصفات الرئيسية للمدن الذكية في طورها المعاصر هي الاستدامة وجودة الحياة واستخدام تكنولوجيا الاتصالات المبدع لتحقيق التفاعل بين المجتمع ومكوناته البشرية المتباينة.. إن زيادة جودة حياة الأهالي لن يتحقق إلا من خلال الدمج بين الابتكار التكنولوجي والابتكار الاجتماعي.
 

إن انساق التعامل مع المدينة التي رصدت في هذا المقال، تبلور أمامنا حقيقية بديلة عن مفهوم مختلف للمدينة الذكية المبدعة في تصرفاتها البسيطة من أجل غايات كبرى. كما يتضح أن المدينة هي عملية مشروع متكامل يجب أن يتواجد المواطنون حول طاولة اتخاذ القرار إذا كانت هناك رغبة حقيقية في إنجاح هذا المشروع.. ولذا قد يكون من الخطأ أن نصف مدينة بالذكاء وهي تخلق حالة من الانفصال والتشرذم والفردية بين مجتمعها، وقد يجوز أن تفخر مدينة بأنها غبية لأن أهلها متفاعلون.
 

حقا أحيانا قد يكون "الغباء هو الحل من أجل حياة ومجتمع وإنسان أفضل".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.