شعار قسم مدونات

نسب الثوريين

blogs-النسب
 
عرفت من حساب الصديق غريب عزام على موقع الفيسبوك (عزّام اسم رمزي، وهو من أبناء الثورة الفلسطينية ممن شهد حرب لبنان وموسوعة في تاريخ التنظيمات الفلسطينية ولا يكاد يمرّ يوم دون أن أتابع صفحته)، أن القيادي الأمني في فتح "بن بلة" هو من مواليد درعا (وأنا من درعا)، وكان بن بلة اعتُقل مع "أبو داود" ومجموعة من قيادات فتح في الأردن بعد أحداث أيلول الأسود لتخطيطهم لاحتلال مبنى الخارجية الأردنية للمقايضة بالمعتقلين، ويروي رئيس المخابرات الأردنية نذير رشيد في السلسلة الوثائقية المميزة "حكاية ثورة" كيف كان بن بلة يلقي البيانات الثورية في السجن دائماً ويشهد برجولته.
 

في الحقيقة، فإنني -كمثقف ورجل ثوري- أتتبع النماذج الثورية والتحررية الحديثة في معظمها، والمسلحة خاصة (إن كان هناك تجارب ثورية غير مسلحة)، سواء منها اليسارية أو الوطنية أو الإسلامية، ومهتم بالتنظير الثوري وتجاربه على السواء، ولكنني أشعر بارتباط أعمق بالثورة الفلسطينية، برموزها وأغانيها وقصائدها وقادتها وأجواء حرب المخيمات والرحيل والنضال الطويل الذي مرّت به، وبأخطائها الجمة والكبيرة أيضاً.
 

في بدايات الثورة السورية كنت أسمع يومياً تقريباً "مديح الظل العالي" أو "بيروت" بصوت محمود درويش وأشعر بأن هذا ما أريد قوله:

القمحُ مرّ في حقول الآخرين
والماءُ مالحْ
والغيم فولاذٌ
وهذا النجم جارحْ
وعليك أنْ تحيا
وأنْ تحيا
وأنْ تعطي مقابل حبة الزيتون
جلدَكْ
كم كنتَ وحدك يا ابن أمي
كم كنتَ وحدكْ !
 

في درعا لم تعرف الثورة فرقاً بين المخيم والبلد، كان المخيم في الثورة منذ بدايتها، شارك أبناء المخيم في أول المظاهرات، وقاتلوا في أول معارك الثوار حتى كانوا مع أول مواكب الشهداء

وفي مراحل لاحقة كنت أسمع على مدى أشهر وعدة مرات في اليوم قصيدة "عبد الله الإرهابي" بصوت مظفر النواب، عن المرحلة نفسها:

بعض الناس خطايا فادحةٌ يا عبد الله
وبعض الناس قصاص
أنت قصاص !
 

ولا أشعر بأنني دخلت في ثورة أخرى بينما أسمع "طل سلاحي من جراحي" بصوت فرقة العاشقين أو "يا يمه في دقة عبابنا" بصوت "أبو عرب"، وإن كنت أحب أناشيد حماس أيضاً.
 

ربما بسبب "الخلل النخبوي" أو "المتروكية" لم يتح للثورة السورية شعراء ومغنون -عدا من ظهر أول الثورة- ومثقفون عامة، يدونون روح ثورتها وحروبها الطويلة ومجدها المستحيل، بما يناسب جلالة الحدث التاريخي المؤسس لحاضر عالمنا ومستقبله.
 

ولا أعرف إن كان صدفة من ترتيب القدر أنني منتمٍ في الثورة السورية، من حيث الإقامة والنسب، إلى أكثر مكانين شبهاً من حيث طبيعة ثوارهم وحربهم وأجوائهم بتجربة الفصائل الفلسطينية في حرب المدن والمخيمات، أعني حلب ودرعا.
 

في درعا لم تعرف الثورة فرقاً بين المخيم والبلد، كان المخيم في الثورة منذ بدايتها، شارك أبناء المخيم في أول المظاهرات، وقاتلوا في أول معارك الثوار وجربوا "الأكواع" على أول دبابات النظام ولم تمرّ أسابيع على 18 آذار 2011 حتى كانوا مع أول مواكب الشهداء.
 

وكما أنه لا أحد في درعا ينسى اسم حسام عياش ومحمود الجوابرة أول شهداء الثورة، فلا أحد ينسى اسم موسى الطفوري، ابن المخيم الذي استشهد بينما كان يوصل الخبز والغذاء إلى أحياء درعا البلد المحاصرة نهاية نيسان 2011م، وكانت تروى قصص وأساطير عن قوة بنيته، وانتقم النظام من مخيم درعا بحقد كبير خلال حملات القصف التي دمرت كثيراً منه، ودارت في المخيم كما في كامل خط جبهة درعا البلد اشتباكات عنيفة خلال سنوات الثورة، وكان أبناء المخيم في تشكيلات الجيش الحر نفسها مع أبناء حوران، وأحد شهداء درعا البلد الذين لا ينساهم الثوار هو القائد عمار أبو سرية قائد العمليات في لواء توحيد الجنوب، استشهد في تحرير الشيخ مسكين (22/12/2014).
 

أما في حلب فقد كنا منذ نهاية 2012م وحتى الآن في حالة حرب المدن كما في بيروت الشرقية والغربية، الحرب والثورة حاضرتان كل لحظة في الشارع أو في طيران العدو في السماء، طبعاً مع استمرار معارك الجبهات المفتوحة على مداخل المدينة وفي ريفها.
 

بالنسبة لي كان أغرب فترة عشتها في حلب هي وقت الهدنة -رغم أن الاشتباكات فعلياً لم تنته تماماً- لا فترات القصف بأعنف مراحلها، وأنا لا أعرف حلب قبل الثورة، ولا أعرف حلب الأخرى، حلب المحتلة كما يسمونها، حلب التي أنتمي إليها هي هذا الدمار العميم وهي مقرات الفصائل التي نرمّزها بالأرقام لنلتقي فيها لاجتماعات ثورية غاضبة أو سهرات عابرة، وهي سيارات الجيش الحر في الشوارع وعودة المرابطين من نوباتهم صباحاً وليلاً وحرب المدينة التي لا تهدأ.
 

أتذكر دوماً قول امرئ القيس، الثائر العربي المخذول في ثأره:
أجارتنا إّنا غريبان ها هنا
وكلّ غريبٍ للغريب نسيبُ
 

ثمة حالة من الغربة عن التاريخ والراهن لأجل تغييره لدى الحركات الثورية عامة، وثمة حالة أعم وأعمق من النسب الوجداني الحميم والمسكوت عنه بين ثوار لا يعرف بعضهم بعضا وقد لا ينتمون لقضية واحدة، ولكنهم ثوار ويعرفون هذا النسب بينهم من نظرات العيون ومن لامبالاتهم الساخرة ومن غضبهم المعتق، وهؤلاء الغرباء النسباء جميعاً يخشون أن يعرفوا بعضهم في منافي أو مقاهي المهزومين والقضايا الماضية.
 

ونحن كثوريين نعرف أن الناس قد ينظرون نحونا شزراً أو رثاءً، ويقولون إننا نخوض حروباً خاسرة أو بلا جدوى، ولكن هذا ليس مهماً، ما دامت حربنا، وما دمنا مؤمنين بأنها سبيل الكرامة حتى لمن لم يبالوا بنا، الثورة هي المعنى وهي الجدوى، وهي فرحنا الخفيّ وسط الحرائق، ولو راودتنا في لحظات تشاؤمية ممدوح عدوان ولكن إصرار الثوري اللامبالي رغم ذلك في "رحلة الدونكيشوت الأخيرة":

معركة اليوم بلا أملٍ بالنصر
وأنت تقاتلُ كي لا تخجلَ من نفسكْ
كي تجرؤ أن تنظر في عيني ابنكْ
كي لا تغرقك الأحلام المخزية
وكي تبقى إنسان
 

سلام على الثوار من كانوا أو سيكونون، من يؤمنون بأن الكرامة تستحق وأن الحرية تستحق ومن يحبون الحرب حين يكون بديلها الخضوع للأعداء

يحكون في بلادنا عن رجل استشهد في درعا أيام الثورة الأولى، كانوا يحاولون إنقاذه بينما تتركه الروح وهو يردد بفرح الحشرجة:
"بكفيني عشت أربع أيام حرية".
 

صديقي وائل عبد العزيز من داريا كان مسجوناً في المخابرات الجوية في الأشهر الأولى للثورة، يقول لي إنهم كانوا يعودون من حفلات التعذيب إلى الزنزانة ومعهم شيخ سبعيني من درعا، يهدهد على دمائهم النازفة ويغنّي بصوته الحوراني الثقيل "يا حيف" لسميح شقير، ويقول لهم ببريق وضحك حزين في العينين:
"والله يا شباب نفسي قبل ما أموت أتنفس حرية".
 

سلام على الثوار، من كانوا أو سيكونون، من يؤمنون بأن الكرامة تستحق، وأن الحرية تستحق، ومن يحبون الحرب حين يكون بديلها الخضوع للأعداء، سلام على من التقيناهم أو سنلتقيهم، ومن عرفناهم وأحببناهم أو سيعرفوننا بعد قليل… بعد عام وعامين وجيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.