شعار قسم مدونات

عن الثورة اليمنية والهوية الوطنية

blog-medidy

ليس ثمة حدث باستطاعته إعادة بلورة الهوية التي يتأسس عليها الاجتماع السياسي كما يفعل النضال الوطني والثورات الشعبية، ذلك أن الثورة كحدث مترع بالرمزيات وممتلئ بالتضحيات قادرة على إلهاب مخيلة الشعوب وعلى إعادة تصورهم لأنفسهم ووجودهم الاجتماعي وفعاليتهم التاريخية كشعب متجانس له رسالة يحققها في التاريخ عبر نضاله المشترك وتضحياته.

تاريخيا، تشكلت الهويات المتخيلة الحديثة -القومية منها أو الوطنية- جراء عمل نضالي جماهيري، وكانت الثورة الفرنسية فاتحة لما أصبح بعد ذلك أنموذجا في عمليات تشكل الهويات الحديثة، أصبحت الثورة واسطة العقد بين ثنائيتي الأمة والدولة، وجسرا ضروريا لعبور الأمم نحو تشكيل كيانيتها السياسية المتمثلة بالدولة الحديثة.

لم تكن الثورة اليمنية التي اندلعت في فبراير/شباط 2011 مجرد مطالبة بتغيير نظام سياسي وإحلال نظام ديمقراطي آخر مكانه، بل كانت قبل ذلك إعادة لتشكيل أسس الاجتماع السياسي اليمني الذي طغت عليه الهويات ما قبل الحديثة، خاصة القبلية منها أو المناطقية، وإعادة تعريف واكتشاف الذات اليمنية على أساس وطني جامع.

الثورة أصبحت واسطة العقد بين ثنائيتي الأمة والدولة وجسرا لعبور الأمم نحو تشكيل كيانيتها السياسية المتمثلة بالدولة الحديثة

صحيح أن الثورة الجمهورية التي قامت عام 1962 استطاعت أن تطيح بالنظام الإمامي الزيدي بعد صراع مرير وطويل استمر لثمانية أعوام وشهد تدخلات إقليمية ودولية، لكن النظام الجمهوري الذي تأسس بعد نجاح الثورة فشل في تأسيس هوية وطنية جامعة، وسرعان ما هيمنت عليه قوى قبلية أعادت إنتاج شكل جديد من الدول العصبوية التي تتأسس على روابط ما قبل حديثة.

قبيل اندلاع الثورة اليمنية بسنوات معدودة ظهرت على السطح مشاريع انفصالية متعددة، فتأسس الحراك الجنوبي المطالب بانفصال جنوب اليمن عن شماله في عام 2007، وظهرت الحركة الحوثية في أقصى شمال اليمن بصعدة كإحياء للفكر الإمامي الزيدي مهددة بذلك النظام الجمهوري، بينما وجد تنظيم القاعدة لنفسه بيئة مناسبة في جنوب ووسط اليمن متخذا له حاضنة اجتماعية توفر له الحماية، كل هذه المشاريع الانفصالية التي كانت تهدد دائما الاجتماع السياسي اليمني جاءت كنتيجة لغياب المشروع الوطني والهوية الوطنية السابقة على كل فعل سياسي والتي يتأسس عليها المجال العام.

قامت الثورة اليمنية كامتداد لحالة الربيع العربي الذي ابتدأ من تونس وهبت رياحه شرقا إلى مصر ثم اليمن، لكن ولخصوصية الحالة اليمنية -كما ذكرنا- فقد اكتسبت الثورة دلالات مختلفة عما اكتسبته في باقي دول الربيع العربي، إذ كانت تمثل في باقي الدول العربية حالة من النضال الوطني ضد سلطة سياسية فاسدة ومتغولة، بينما كانت الثورة في اليمن في جوهرها إعادة بناء تاريخية للأسس التي تشكل الاجتماع السياسي.

لم يكن من المصادفة أن تتأسس ساحات الاعتصام في العاصمة أمام بوابة جامعة صنعاء، وأن يقود هذا الحراك في بداياته طلاب الجامعة الذين ينتمون إلى الطبقات الوسطى في أغلبيتهم، ذلك أنهم -كممثلين عن الطبقة الوسطى- يدركون أن وجودهم وفاعليتهم مرهونان بوجود دولة حديثة توفر لهم البنية التحتية التي يستطيعون من خلالها التعبير عن رغباتهم وآمالهم، فبالتالي كانوا معنيين قبل غيرهم بعملية البناء الوطني وإيجاد حياة سياسية حديثة ومجتمع مدني.

في ساحة التغيير التقى اليمنيون ببعضهم البعض واكتشفوا أنفسهم بما أنهم شعب له سمات حضارية وفاعلية تاريخية وآمال مشتركة ومصير واحد، كانت قصائد الشاعر اليمني العظيم عبد الله البردوني في هذا الحدث تؤسس لعصر يمني جديد، وكانت أبياته التي لامس فيها صميم حالة الاغتراب التي مزقت اليمنيين قد اكتسبت دلالات جديدة:

"يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن     جنوبيون في صنعاء شماليون في عدن"

المشاريع الانفصالية التي كانت تهدد دائما الاجتماع السياسي اليمني جاءت كنتيجة لغياب المشروع الوطني والهوية الوطنية

كان هذا البيت الشعري الذي يجسد حالة الشتات قد علق على أحد مداخل ساحة الاعتصام في صنعاء، وكانت أغنيات أيوب طارش وضروب النشيد الوطني الذي يردده مئات الآلاف من المعتصمين في مختلف الساحات بحماسة ملتهبة وكأنها المرة الأولى التي يرددونه فيها، كلها كانت تمثل تجسيدا واقعيا لهذا اللهيب الوطني الذي فجرته الثورة اليمنية.

ثمة ملمح مهم لهذه الصحوة الوطنية -إن صح التعبير- تجسد في الطابع السلمي للثورة اليمنية على الرغم من وجود السلاح بوفرة لدى عموم المجتمع اليمني، لكن استخدام العنف كان يرمز لذات الحالة التي قامت الثورة للقطيعة معها، أي حالة الاحتراب الأهلي والفوضى، خاصة أن الهوية الوطنية لم تكن قد ترسخت في الواقع الاجتماعي، وهو ما يجعل أي نضال مسلح قابلا لأن يتحول إلى انقسام أهلي حاد وصراع فوضوي جديد، لذلك كانت الثورة ملتزمة حتى النهاية بالمسار السلمي وبالتعبير عن نفسها بأدوات مدنية تنتمي للزمن الجديد من قبيل الشعر والفن والغناء، وضمنت استمراريتها من خلال تمجيد الموت والتضحية في سبيل الوطن.

كان هذا هو الإنجاز الأهم الذي حققته الثورة اليمنية، وهو إنجاز تحقق على مستوى الإدراك والوعي قبل أن يتحقق على أرض الواقع بطبيعة الحال، وسواء طال الزمن أم قصر عن تحقيقه في الواقع فإن ذلك الحلم الذي مس اليمنيين سيظل يراودهم طويلا ولن يفارقهم حتى يجد طريقه في الواقع متجسدا بمنظومة سياسية حديثة.

نقف اليوم على بعد خمس سنوات وعدة حروب وصراعات من هذا الحدث الفارق في التاريخ اليمني الحديث، ولا يزال الأفضلون منا يحملون السلاح ويدافعون عن حلمنا الذي عشناه حقيقة في ساحات الاعتصام إبان الثورة اليمنية، وهم بذلك يشكلون استمرارية للنضال الوطني ضد جميع أشكال الردة نحو البنى التقليدية، سواء القبلية أو الطائفية.

يدرك اليمنيون اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه ليس بالإمكان الخروج من حالة الاحتراب الأهلي الذي طبع التاريخ اليمني الحديث سوى نحو أفق وطني مشترك، وإن كان ثمة ما هو جيد في هذه الحرب -التي فرضها التوسع الحوثي- فهو تنامي الحاجة لوجود دولة تعبر عن هوية وطنية جامعة ومشروع وطني حقيقي لا كخيار لقوى تحديثية محدودة وحسب، بل كضرورة تاريخية لتجاوز الحروب والصراعات الأهلية التي لم تتوقف عاما واحدا منذ تشكل الدولة اليمنية في العصر الحديث في ستينيات القرن الماضي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.