شعار قسم مدونات

ماذا بقي من سيد قطب؟

سيد قطب

مرت ذكرى سيد قطب الخمسين على إعدامه، ولا تزال مقولاته ترن في الآذان، وتدغدغ بعض العقول التي تزنها بميزان الحكم والمواعظ، غير أن الناظر إلى تجربة الرجل في سياقها ومآلاتها يحتاج إلى تجاوز مرحلة العاطفة إلى العقل والخروج من دائرة المباركة إلى المراجعة.
 

بمعنى أن فقه السجون لا يتلاءم مع مرحلة ما بعد الثورة اليوم، ومعرفة الخمسينيات وتجاربها لا يمكن أن تنزل حلولا في القرن الـ21، وذلك من مقتضيات تطور الأفكار واختلاف الأمصار والأقطار، بل إن مآلات تلك الأفكار قد كشفت عن كثرة الضحايا والصدامات دون تأسيس لمنطق التعايش والتنوع الاختلاف الذي تستوجبه مفردات الفضاء العمومي اليوم.
 

معركة الإسلاميين اليوم في حاجة إلى تعديل بوصلتها لتتعالى عن منطق العدد والعدة ومفردات الفداء ومواجهة الأعداء، فيكفي فشلا في كسب الأصدقاء ومراكمة الأعداء

إن تجربة سيد قطب الفكرية والسياسية لا يمكن أن تستنسخ ولا أن تسقط على واقع اليوم باعتبار استنفادها لمقومات وجودها رغم طرافتها في حينها، ذلك أن منطق الحاكمية وتكفير المجتمع واعتباره جاهلية جديدة قد أفضى إلى عزلة الجماعة الإسلامية عن الفضاء المدني والاجتماعي، وأضحت أقرب إلى مجتمع السجون وميادين النزال منها إلى ساحة الحكم والتأثير التشريعي والسياسي، فأفسحت لغيرها ساحات القصور واكتفت بلحود القبور وجدار الزنازين، وهي معادلة قاسية قد جرت أجيالا من الإسلاميين إلى أعواد المشانق أو مساحات التهميش والنسيان.
 

فقد يكون من المهم حينئذ عند إحياء ذكرى الشهيد الارتفاع عن مقامات التقديس وبكائيات الرثاء إلى الاعتبار من التجربة حتى لا يعدم الشهيد من جديد عبر تلاميذه ومريديه الذين تستنزفهم أفكاره، فيعادون الجميع ويحشرهم المجتمع في زوايا المحاسبة والمحاكمة والرفض والإقصاء والتهميش.
 

فلا بد أن تفهم الأجيال الجديدة أن لحظة سيد قطب في الخمسينيات قد أنتجت ذلك الفكر لترسيخ المشروع في النفوس ومواجهة استبداد النظام العسكري، غير أن مفرداته وتوصياته لا تتعالى عن الزمان والمكان بقدر ما تحتاج إلى تنسيبها ومراجعتها لتحقيق مقصد الاستمرار والتموقع المنشود.
 

إن معركة الإسلاميين اليوم في حاجة إلى تعديل بوصلتها لتتعالى عن منطق العدد والعدة ومفردات الفداء ومواجهة الأعداء، فيكفي فشلا في كسب الأصدقاء ومراكمة الأعداء، لتتجه إلى إشارة البوصلة الصحيحة وهي التموقع في مواطن التأثير الاجتماعي والسياسي والفكري من خلال المحطات الإعلامية ومراكز التفكير والتخطيط الإستراتيجي ومواقع النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية، وهي المعركة الحقيقية في المستقبل بعد فشل خيارات المواجهة والصدام وإعلان الحرب على المجتمع.
 

إن سيد قطب مرحلة أنتجت الكثير من المريدين، غير أن حجم العدد لم يساهم في تطوير الفكر الإسلامي وترسيخه بعيدا عن منطق القوة والمواجهة.

لذلك فإن بقاء بعض الإسلاميين في جبة الشهيد إلى اليوم لن يزيدهم إلا إغراقا في منطق الضحية والغربة والفرقة الناجية واستمرارا في أسلوب البكاء والرثاء، في لحظة حضارية فارقة يبحث فيها الجميع عن موقع التأثير الحقيقي خارج دائرة العدد، بل في صلب الفردانية الناجعة والمواقع المؤثرة والأفكار المؤسسة للانتشار والامتداد على قاعدة المشترك الحضاري والمصير الإنساني الواحد الذي يستوجب إنقاذ البشرية من مخاطر التخلف والإرهاب والفساد والتراجع القيمي الرهيب.
 

المشروع القطبي في نهاية الأمر معركة من أجل التموقع وحماية الوجود، غير أن لحظة الخمسينيات قد أوجبت الصدام، والحاجة اليوم هي إلى التصالح والتفاهم مع الجميع للخروج من عنق فقه الأزمة

فهل يدرك الاسلاميون اليوم دروس التجربة القطبية ليؤسسوا تجربتهم الجديدة على ضوء تحديات اللحظة الحضارية أم تراهم أقرب إلى دوائر الفكر القطبي الجهادي والتكفيري الذي أصبح عنوانا خاسرا في مختلف الدوائر العالمية بعد أن توفرت وسائل الاتصال والتواصل مع العالم الخارجي بلغة التعارف والاكتشاف والتعايش والاختلاف والتنوع لما توفره القيم الكونية من مسوغات الوجود دون حدود على ألا يعني ذلك بأي حال من الأحوال تشريعا للانسلاخ أو الانحلال أو الركون إلى الموجود دون مشروع أو رؤية.
 

إن المشروع القطبي في نهاية الأمر معركة من أجل التموقع وحماية الوجود، غير أن لحظة الخمسينيات قد أوجبت الصدام، والحاجة اليوم هي أقرب إلى إقرار التواصل والتصالح والتفاهم مع الجميع للخروج من عنق فقه الأزمة والصدام إلى فقه الشهود الحضاري والاستخلاف الفاعل داخل ساحات التأثير ومواقع التغيير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.