شعار قسم مدونات

هوامش ومتن للديمقراطية

الشعب التركي
في أحد اللقاءات الخاصة، والتي يُسمح بنقل فحوى نقاشاتها دون الإشارة إلى قائليها، ضمّ اللقاء أحد مسؤولي حزب العدالة والتنمية المقرّبين من رجب طيّب أردوغان، مع مجموعة من النخب السياسية والفكرية الأردنية، وشارك في اللقاء حينها بعض قيادات الإخوان المسلمين.

في سريرتهم وعلانيتهم أيضاً، يعتبر الإخوان أنّ تجربة حزب العدالة والتنمية امتداد للتجربة الإخوانية، وأنّ نجاحها دليل على صوابيّة نهج الجماعة، ولكن، كما صرنا نعرف جميعاً، فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون أحد التكتيكات الخطابيّة والدعائية.

ذلك أنّ الجماعة، وطيلة سنوات إعجابها الطويلة بأردوغان ومجموعته، لم تستطع أن تُقدّم أية اجتهادات فكريّة أو مراجعات نظريّة بخصوص مواقفها السياسية الكبرى، وبقيت تصوّراتها عن الدولة والأمّة، والديمقراطية وتطبيق الشريعة، ملتبسة في جملتها، وأقرب ما تكون إلى النهج الأربكاني منها إلى النهج الأردوغاني.

في ذلك اللقاء، تقطّبت الحواجب حين تحدّث المسؤول التركيّ عن إيمان أعضاء حزب العدالة والتنميّة وقيادته الراسخ والقاطع بالديمقراطية والعلمانية؛ بمعنى أكثر نعومة من العلمانية الكمالية اللائكيّة بالطبع.

تقطّبت حواجب الإخوان، كما تقطّبت حواجب العلمانيين الحاضرين، الذين لم يُعجبوا قطعاً بأن تنهار سرديّتهم عن ديمقراطية الإسلاميين باعتبارها مُجرّد مطيّة للوصول إلى السلطة.

إذا كان للفلسفة حقّ الحكم على النوايا، فإنّ السياسة ليس لها أن تحكم إلا على الخطابات والممارسات

لا تتعلّق المسألة هنا بلوم الإخوان، فقد شبعوا لوماً، وتكشّفت مع دوران الأيام وانهيار الجماعة وتفتتها، أنّ الكثير من لائميهم العلمانيين العرب، كانوا أقلّ ديمقراطية منهم، وكانوا على استعداد للتحالف مع العسكر لمواجهة صعود الإسلاميين، بدءاً من أحداث الجزائر 1991-1992، مروراً بالحالة المصرية، ووصولاً إلى محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا، كان شعار الانقلاب على الديمقراطية دفاعاً عن الديمقراطية والعلمانية شعاراً رخيصاً تتبناه السياسات الغربيّة وتردده ببغاواتها.

لا تتعلّق المسألة بلوم الإخوان، بل بإدراك حقيقة أنّ الممارسة العمليّة للديمقراطيّة هي ما يجعل الفاعلين يتمسكون بالمفاهيم الديمقراطيّة؛ فإذا كان للفلسفة حقّ الحكم على النوايا، فإنّ السياسة ليس لها أن تحكم إلا على الخطابات والممارسات، ولا معنى للنوايا فيها ما لم تترجم إلى خطاب أو برنامج أو ممارسة سياسية ما.

حين سألت المسؤول التركيّ عن المراجعات التي دارت في أعقاب التجربة الأربكانيّة، وعن أبرز مفكّريها، تقطّب حاجباي أنا الآخر، حين أجابني بأنه ليست ثمة مراجعات فكريّة، وليس ثمة نقاش نظريّ معمّق حول توافق الديمقراطية مع الشورى، أو علاقة وثيقة المدينة بعلمانية الدولة وحياديّتها تجاه أديان مواطنيها وفصلها للشأن الديني عن البرامج السياسية.

ما حدث، هو أنّ الإكراهات العمليّة قد ولّدت منظورات جديدة لا يمكن ممارسة السياسة إلا بها، ومن ثمّ فقد تمسك الفاعلون بهذه المنظورات، وتحوّلت الخطابات إلى قناعات. 

في الكتاب الذي انتهيت من ترجمته مؤخّراً؛ "الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية"، يدافع نادر هاشمي عن ضرورة التركيز على الطبيعة السيسيولوجيّة للحركات والتنظيمات "الأصوليّة" الإسلامية، وليس على المحتوى النظري والأيديولوجي لها.

وهذا دقيق في ما يتعلّق بحالة المجتمعات التي تخوض مرحلة تحوّل جذريّ ورئيسيّ من التقليد إلى الحداثة، فما كان سلفيو مصر يحاربونه البارحة؛ بدءاً من التصوير الفوتوغرافي وجواز كشف وجه المرأة، وصولاً إلى كفر أو فسق المشاركين في العملية الديمقراطية، قد تمّ حسمه بين ليلة وضحاها، لا من خلال مراجعات فقهيّة، وإنما من خلال الإكراه العمليّ والتحوّل في بنية الواقع الاجتماعي-السياسي.

صحيحٌ أنّ التنظير المسبق يوفّر على التنظيمات والجماعات حالة الارتباك الأيدولوجي وتخلخل الصفّ الداخليّ، ويمنحها الاستمراريّة، كما يمنحها ثقة خصومها، كما في حالة حزب النهضة التونسي، إلا أنّ الشرط العمليّ يبقى هو العامل الأكثر حسماً.

يُشار عادةً لجملة تحوّلات الإسلاميين نحو الديمقراطية والعلمانية في تركيا وماليزيا وإندونيسيا وتونس والمغرب بمصطلح "ما بعد الإسلام السياسي"، وهو مصطلح أرساه أوليفيه روا وأوليفيه كاريه في مطلع التسعينيات، وإن كان المعنى الذي يستعمله به آصف بيات أكثر دقّة وتفسيريّه.

لا يجب أن تغيب عن انتباهنا، أثناء الحديث عن هذا التحوّل في البلدان المذكورة آنفاً، حقيقةُ وجود مؤسسات دولة ديمقراطية علمانية راسخة جزئياً، ووجود إجماع وتوافق لدى قوى المجتمع المدني والمثقفين والسياسيين والعسكريين وقطاع الأعمال بضرورة الحفاظ على مكتسبات الدولة والديمقراطية، أو وصول بعض الدول، كما في الحالة المغربيّة، إلى قناعة بضرورة إدماج الإسلاميين في منظومة الحكم، فما قام به الإسلاميون في تلك البلدان هو استثمار الديمقراطية وتدعيمها، لا تأسيسها.

فماذا نفعل في بلداننا العربيّة الأخرى، التي تتماهى فيها الدولة ومؤسساتها بالسلطة الحاكمة، وتغدو أداةً لبسط سلطة النخبة الحاكمة؟ ماذا نفعل في بلداننا العربية الأخرى التي تذرّعت سابقاً بعدم أهليّة الإسلام السياسي لمباشرة العمليّة الديمقراطية، لإسكات كلّ دعوة للديمقراطية والحريات فيها، والتي تتذرّع اليوم بصعود السلفيّة الجهاديّة لقمع أيّ محاولة للتحرّك في الفضاء المدني؟

ها نحن نرى قبضة السلطويّة تخنق أحلامنا، وتعيد بناء جدار الخوف الذي ثُقب ذات ربيع، حتى كأنّ أمل دنقل كان يكتب عنا حين قال: "آه ما أقسى الجدار.. عندما ينهض في وجه الشروق.. ربما ننفق كلّ العمر كي نثقب ثغرة.. ليمرّ الضوء للأجيال مرّة".

لا أرى مخرجاً يسرّع من التداعيات المؤسفة لهذه التحوّلات إلا بالإسراع في الوصول إلى حالة التوافق

بل قد تتداعى التناصات المرّة، بداعي العدميّة الساخرة، لنتخيّل أننا يأجوج ومأجوج، وأننا كلّما فتحنا ثغرة في سدّ السلطة، عادت يد القهر لتردمها في دورة عبثيّة. ولكن، وإن كان إيقاع اللحظة ثقيلاً، فإنّ آفاق المشهد لا تزال مفتوحة على احتمالات مشرعة، وإن كانت ملامح الفوضى العنيفة تتلمّظ في أفق المشرق العربيّ ومغربه، فإنّ سيرورة التحوّلات الكبرى كثيراً ما تمرّ بهذه الأطوار القاسيّة في طريقها نحو الوصول إلى توافقات اجتماعيّة وسياسية كبرى.

وهو ما يذكّرنا به نادر هاشمي مرّة أخرى، وهو يعقد مقارنة لافتة، رغم ما يشوبها من قصور، بين صعود الأصوليّة الإسلاميّة وبين صعود نظيرتها الأوروبيّة -البيوريتانية والأطياف البروتستانتية وحركة تجديدية العماد- في القرنين السادس والـ17، مدللاً على الطبيعة السيسيولوجيّة لظهور هذه الحركات في أوقات التحوّل والاضطراب وذوبانها المحتوم في لحظات الاستقرار وحسم المجتمعات والدول لخياراتها السياسيّة نحو التطوّر السياسي.

لا أرى مخرجاً يسرّع من التداعيات المؤسفة لهذه التحوّلات إلا بالإسراع في الوصول إلى حالة التوافق والإجماع حول الديمقراطيّة، بوصفها مناخاً لإدارة الخلاف وتنظيم الصراع الأيدولوجي في إطار العمليّة الانتخابيّة الحقيقيّة.

لم يعد الأمر متعلّقاً بطيف دون آخر، لا بالإسلاميين ولا بالعلمانيين وحدهم، بل بنا جميعاً، لا بوصفنا فاعلين سياسيين، لكن بوصفنا بشراً نبحث عن آدميتنا وبشريّتنا وحقّنا الوجوديّ في الحياة والحريّة والعدالة.

وإذا كانت الديمقراطيّة استغلّت كأداة للهيمنة الخطابيّة، فإنّ تحققها الفعليّ هو أداة للتحرر، ولا بدّ من مزواجة مفردة التحرر بمفردة الديمقراطيّة.

وإذا كنا قد اطلعنا على مئات النقود الموجّهة للديمقراطية وعلى عشرات العلل التي تجعل من الديمقراطية بنية سياسية فوقيّة للرأسمالية، فإنّ روح الثورات العربيّة رفعت شعار العدالة الاجتماعيّة مقترناً بالحريّة والديمقراطيّة، وهو ما ينبغي ألا نخسره، بعد كلّ ما خسرناه.

إنّ الديمقراطية مكتسب إنسانيّ اليوم، وليست مكتسباً غربياً وحسب، وعلى هذه الأرضيّة لا بدّ أن نمتلك الشجاعة لنتجاوز خطاب الاحتكار والوصاية الغربيّ على الديمقراطيّة، كما لا بدّ أن نمتلك الشجاعة لمواجهة احتكار الإسلام والمزاودة على الشرعيّة الدينية والأخلاقية من قبل داعش وغيرها.

إننا -كديمقراطيين- لا نمتلك زمام اللحظة التاريخية الآن، ونترقّب ربما كغيرنا تحوّلاً في الظرف الموضوعي لنتمكّن من الحركة والفعاليّة، ولكن حتى ذلك الحين، فإنّ اتساع رقعة الإجماع حول طبيعة النظام السياسيّ، وعدم المهادنة في انتهاك الحقوق المدنيّة والحريات العامة والتركيز على مسؤولية دولنا السلطويّة عما يجري من تطرّف واضطراب واحتراب عنيف، وتجاوز المناكفات الأيدولوجيّة، التي لا تخدم سوى الاستبداد، هو خطّة عمل إستراتيجيّة رئيسيّة لتجنيب أنفسنا عقوداً من الفوضى أو الاستبداد أو المراوحة بين ناريهما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.