دويٌّ في أعماقي تأثّر بخمول الحرارةِ قبل لمسها، تبعهُ صوتٌ كسول آثرَ عدم التدخل بالنقاش السياسيّ المرافق ذهابًا وإيابًا في الحافلة التي أقلتني مع نشطاء ومتضامنين، ليس فقط من وإلى العراقيب تفتحُ هذه الهوة، بل منذ المولد حتى الممات، فأن تكونَ فلسطينيًا يعني أن تدخلَ السياسة عقر دارك قبل أقربائك وأبنائك، وقد لا تقرع السياسة باب بيتك، قبل دخولها، بسبب وقاحتها وبطشها، فتجعلك تنام خارجًا، دون أيِّ شيء، لتنتزع منكَ كلّك، إلا الروح، كزوجة الأب الجشعة التي ترملت لتوّها.
وصلنا العراقيب، والعيون الناظرة متجمهرة بلهفةٍ صوبنا أنّ هناك من لبّى نداء الاستغاثة |
العراقيب -لمن لا يعرف- هي قرية فلسطينية داخل الخط الأخضر، لا تعترف إسرائيل بوجودها، وعلى ذلك هدمتها 101 مرّة متتالية خلال ست سنوات. وبما أنّ السياسة تصبحُ يوميًا مركبًا من مركبات هوية الفلسطينيّ في لا وعيه، تمامًا كجوهر الأسئلة الوجودية التي طرحها فلاسفة اليونان بوعي، تضحي السياسة الإسرائيليّة الغاشمة بذلك سببًا تعيسًا يخلعُ عن الفلسطينيّ في أرضه حقوقه الأساسية كإنسان، مجرّدًا إياه من خيمته البدوية التي نشأ بها منذ مئات السنين، سالخًا إياه عن بيئته وهويته وماشيته. هذا ما كنت أفكر فيه طوال الطريق الذي استغرق ساعاتٍ عدة، بعد انطلاقي من مسقط رأسي، مدينة الناصرة، في جليل فلسطين الأسفل.
تزاحمت الأفكار في عقلي كطابورٍ طويل، فما إن تذهب فكرة حتى تستقبلني نقيضتها، كهذه الوضعيّة المزدوجة، وأنا أرقبُ ما وراء الزجاج، أشجار شبه صفراء يابسة منهكة، جبال ترابية، وأسراب سيارات متراصّة بشارعٍ سريع، وبهذه الوتيرة ظلّ سائق الحافلة يدوسُ على الكوابح حتى استقرت عجلات الحافلة ثابتة بوصولنا إلى محطّة الوقود، هي ليست فقط لشحن بنزين المركبات، وإنّما مركز لاستراحة المسافرين، وقضاء حاجاتهم الأساسيّة.
الدخول إلى هذا المرحاض العموميّ في إسرائيل يحتاجُ منكَ شيكلا واحدا، أي ما يعادل ربع دولار تقريبًا، إنّه مرحاضٌ برجوازيّ، لا يشبه أيًّا من تلك المراحيض النتنة التي يستعملها العامّة في الشوارع، بوابته إلكترونيّة تُفتح فقط بعد وضع النقود، كلّ غرفةٍ فيه رُسمت بألوانٍ زاهية، ولا شكّ أنه سيبهرك بتصميمه الفنيّ، صورة عصفورٍ بين الأزهار هنا، وفتاة جميلة هناك، سمكة بألوانٍ ساحرة ودولفين يتراقص فوق الماء ببهلوانية، هذه الرسومات التي استحضرت صورًا مختلفةً من بهجة الحياة، التي قُدّمت في مرحاضٍ متقدم تكنولوجيًا، لم تكن إلا طُرفة مفرطة في مبالغة تحويل المراحيض إلى فنادق خمس نجوم، فابتسمت وواصلت طريقي.
وصلنا العراقيب، والعيون الناظرة متجمهرة بلهفةٍ صوبنا أنّ هناك من لبّى نداء الاستغاثة، ليس كطوقِ نجاةٍ ينقذهم من شذرات الرمال الإسرائيليّة العالقة في أعينهم، بل الإحساس أنّ هناك من يمسك بيدهم ويرى هذه الشذرات المؤلمة، وإن كانت زيارة عابرة، وليس صدفةً أنّ هذه الشذرات تأتي في حين تحاول فيه إسرائيل تحويل العلاقة بين الإنسان الفلسطينيّ وأرضه من الانتماء إلى المعاناة اليوميّة، معتقدةً أن يتحوّل هذا الرمل إلى وحلٍ يبتلع الفلسطينيين ويطمرهم في الفناء، بعد أن تعميهم البصيرة.
يقطن العراقيب العشرات ممن صمدوا من أصل أربعمئة نسمة بعضهم نزح من هنا، ولعلّ المعادلة الأصعب هو أن تتقبل كيف يعيشُ هؤلاء في مقبرة البلدة القديمة، التي تفوق بعدد أضرحتها، عدد قاطنيها الأحياء الآن، بعد أن هدمت إسرائيل منازلهم كاملةً، وجعلت منام العشرات منهم بمكانٍ واحد، ألا وهو مسجد قديم قرب المقبرة، خصص للصلاة على الأموات قبل دفنهم، بقي صامدًا بعد هدم القرية رغم أنّه كان مستهدفًا أيضًا، يتكدسون فيه دون أيّما خصوصية أو حرية للفرد الواحد، كعلبةِ سردين مكتظة بالأطفال والنساء ببضعِ أمتارٍ قليلة، كوسيلةٍ تعمّدت إسرائيل أن تقوم بها، لاستواء الموت بالحياة.
مثل هذا المرحاض لا يتمتعُ بهِ إلا قلّة تنطبقُ عليهم معايير الديمقراطية الإسرائيليّة |
العراقيب مسلوبة الاعتراف تفتقد لخدمات الماء والكهرباء بشكل شبه كليّ، محرومون هم من الماء النقيّ، وجميع الأجهزة التكنولوجيّة كالحواسيب والتلفاز وغيرها، هم بالأساسِ لا يمتلكون منازل، يعيشون بخيامٍ بدائية لا تقيهم وأبناءهم من قيظ الصحراء وسمّ الأفاعي والزواحف الضارة، وبهذا تضطر بعض العائلات للمبيت في السيارات، وعلى الزائر لبضع ساعات أن يُشوى في عراء الصحراء، حتى تحول السؤال إلى قدرِ ماءٍ يغلي فوق رأسي: "كيف يستطيعون العيش بتلك الظروف غير المناسبة للحيوان حتى؟"، متخيلةً شكل ذاك الكلب المدلل الذي حملته صاحبته اليهوديّة برفق حين كنّا في استراحة الطريق، وقد لاعبته قليلا ومن ثُمّ وضعته في الباب الخلفيّ لسيارتها الفارهة، ورحلت به معززًا مكرّمًا، يلاعب نسيمُ المكيّف الهوائيّ شعره الأشقر، بمشهدٍ لا ينعم به أمثال هؤلاء البشر في أوطانهم.
تنعدمُ أسسُ الحياةِ هنا، كما يُعدمُ المُجرم المقترف أفظع الجرائم الإنسانيّة، أمام الملأ، وبهذا تقف الشرطة الإسرائيليّة ووحداتها الخاصّة "اليسام"، ووحدات "يوآف" أمام أهالي العراقيب، يهدمون خيامهم المتواضعة جدًا مرةً تلو أخرى، إلى أن فاقَ عدد هدمِها مئة مرّة، مرارًا وتكرارًا، ودون أيِّ كلل يعاودُ العراقيبيّ بناء ما هُدم، أما أطفال العراقيب، فهم يلهون بين أضرحة المقابر الباقية، دون خوف.
ولخصوصيّة الإنسان هنا حيزٌ ضيّق كثقب إبرةٍ رُميت في محيط، وخاصةً النساء والأطفال، لا غرف مستورة يمارسون بها حياتهم الخاصّة، يبدلون ملابسهم عن طريق ستر أنفسهم بغطاءٍ يمسكه فردٌ آخر لهم، وما أن تسأل عن المرحاض حتى تكتشف أنه غير موجود، أو بشكلٍ أدق هو أربعةُ أغطية من أربعِ جهاتٍ، في خلاء الصحراء، مرحاضٌ بدائيّ كقبل مئات الأعوام. لم يسعني في تلك اللحظة إلا استحضار الفرق ما بين المرحاض البرجوازيّ الذي صادفتهُ في طريقي وهذا، فمثل هذا المرحاض لا يتمتعُ بهِ إلا قلّة تنطبقُ عليهم معايير الديمقراطية الإسرائيليّة، هو النموذج الذي يبرهن أنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن هيئة الأمم المتحدة، ليسَ أدنى المقوّمات لحقوق الإنسان بل أقصاها هنا، للفلسطينيين في الداخل.
يبدو جليًا أنّ النكبةَ ما زالت مستمرة هنا ولم تنتهِ، في تناقضاتٍ تدّعي فيها إسرائيل أنّها دولة ديمقراطية لكافة مواطنيها، ومنذُ تلك اللحظة، تلاحقني كوابيس المراحيض البرجوازيّة في إسرائيل، التي مهما لمعت وارتدت ثوب التألق والجمال والتطوّر، تظلّ رائحتها تشي بالعفن والظلم واللعنة… اللعنة!
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.