شعار قسم مدونات

"كريدت كارد".. أو مع "فوكو" في السّوق

blogs - taxes
بعد يوم عملٍ طويل، وجدتُ في صندوق بريدي رسالة غريبة، كانت مُرسَلة من جهة عرّفت عن نفسِها بأنّها "Collection Company" أو "شركة تحصيل"، وكان أوّلُ ما لفت انتباهي في الرّسالة أنّها تفتقدُ إلى اللباقة التي اعتدتُ عليها في مخاطَبات الشركات الأمريكيّة، حتى وهي تُخطرُك بأمرٍ مزعِج، وكانت الرسالة ملأى بتعبيرات مقلِقة من قبيل "دَين مُتأخّر" و "قانون فيديرالي" وأشياء من هذا القبيل، وخلاصة الأمر أنّ هذه الشّركة التي لم أتعامل معها مُطلَقا تُخطرني بأنّ عليّ دَينا لم أسدّدْه لمستشفى الجامعة التي أعملُ فيها نتيجة خدمات طبّيّة قُدِّمتْ لي ولأسرتي، وأنّ هذه الشركة تتولى تحصيلَ الدّين نيابة عن المستشفى بسبب تأخري عن سدادِه. كنتُ متيقِّنا أنّ هناك خطأ ما، فكوني مؤَمَّنا صحيّا يُعفيني من الجزء الأكبر من تكاليف الرعاية الصّحّيّة، وكوني طبيبا في المستشفى يُعفيني ممّا تبقّى، ولذا، أجّلتُ معالَجة الأمر لليوم التّالي.
 

في العمل، وأثناء الحديث مع الزملاء، تذكّرت الرسالة، وتساءلتُ بشيء من عدم الاكتراث عمّا عليّ أن أفعلَه، وما إن سمعني الزملاء أنطق بعبارة "شركة تحصيل" حتى بدا عليهم القلق، وساهم كلٌّ منهم بنصيبه في تحذيري من مغبّة عدم تصحيح الأمر بسرعة، وضرورة التأكّد من تسوية المشكلة بلا تأخير. كان ما حدث خطأ من جانب المستشفى بالفعل، لكنّه كان بداية التعرّف على ملمح أساسيّ لمنظومة السوق في الولايات المتّحدة.
 

لكلّ مواطنٍ في الولايات المتحدة، ولكثير من المقيمين، رقمٌ مميّز هو "رقم الضّمان الاجتماعيّ"، هذا الرقم هو هويّة الشخص بالمعاني كلّها، قانونيّا وأمنيّا واقتصاديّا، وكلّ ما يرتبط بهذا الرقم من أوضاع قانونيّة أو قضايا أمنيّة أو تعاملات ماليّة يظلّ مرتبِطا بالشخص طيلة حياته وبعدَ مماته.. ولأنّ منظومة السّوق مركزيّة في الحياة الأمريكيّة، فهناك رقم آخر لا يقلّ أهمّية، وله قصّة في غاية الطرافة والخطورة.
 

يُمكنُك أن تكون بالنسبة "للدولة الحديثة" مواطنا صالحا كامل المواطنة، وأن تكون "راضية عنك"، لكنّك يُمكنَ أن تكون في الوقتِ نفسِه مُجرِما في نظر "السّوق"

تبدأ الحكاية مع هذا الرقم كالتّالي: يريد الشخص أن يستأجر بيتا أو يشتري بيتا، أو يشتري سيّارة بأقساط، أو يؤسّس نشاطا اقتصاديّا بالتعاون مع غيره، أو يقترض من البنك لبداية مشروع ما، أو غير ذلك من أنشطة اقتصاديّة مختلفة. ولأنّ أكثر هذه التعاملات تشتمل على دفع بالأقساط، أوسداد مجدوَل للديون، أو تعاملات ماليّة مؤجَّلة، فما الذي يضمن للأطراف التي ستتعامل معها أنك شخص موثوق ماليّا؟ وأنّك ستسدّد ما عليك؟ وما الذي سيردعُك -غير القانون والتقاضي- عن المماطَلة والاحتيال؟
 

هنا يأتي هذا الرقم، المسمّى "Credit Score" وتمكن ترجمتُها إلى "مؤشر الضمان" أو "مؤشّر الموثوقيّة"، وهذا المؤشّر عبارة عن رقم يُعبّر عن موثوقيّتك في مجال التعاملات الماليّة. بمجرّد حصولك على بطاقة ائتمان، أو "كريديت كارد"، يبدأ هذا المؤشر بقياس موثوقيّتك الماليّة. إذا كنتَ شخصا يدفع التزاماتِه للبنوك، ولا يتأخّر عن سداد أقساطِه، ويؤدّي كلّ المبالغ المستحقّة عليه إلى دائنيه ومن يتعامل معهم، فسيكون الرقم عاليا، ويعبّر بالتالي عن موثوقيّتِك العالية. أمّا إذا كنتَ متعثّرا في سداد الديون، أو وصلت بعضُ ديونِك إلى "شركات التّحصيل"، أو تأخرت في سداد قسط بيت أو سيّارة أو غيرها، فسينزل رقم الموثوقيّة، وسيمتلئ ملفّ موثوقيّتك الماليّة بنقاط سوداء، تجعلُ أي بنك يتردد في إقراضك، وأي شركة تتردّد في التعامل معك، وقد لا تتمكّن من استئجار بيت معقول يؤيك!
 

كلّ هذه العمليّة تديرُها شركات، أي هي عمليّة من السّوق وإليه، أيْ أنّ مراقبة هذا الرقم، وإضافة النقاط السوداء إليه، كلّها أمورٌ لا تضطلع الدولة بأيّ دور فيها. هناك بعض القوانين التي تنظّم عمل هذه الشّركات، لكنَها قوانين ضعيفة، ومُحابية لهذه الشكرات في كثير من الأحيان.
 

بالتّالي، فهناك نوع من الرّقابة الداخلية تقوم بِه السّوق على الفاعلين فيها. يمكن أن يؤدّي تعثرك في سداد أثمان دوائك وتأخرك في دفع مقابل خدماتٍ صحية طارئة تلقّيتَها إلى أنْ تفقد صفة "المواطِن الصالح" في منظومة السّوق، بل حتّى أن تصبحَ منبوذا لا يُؤَجَّر بيتا ولا تُباعُ له سيّارة بأقساط، كلّ هذا دون أن تُرفَع عليك قضيّة أو تُقدَم ضدّك شكوى أو يطرق بابك ضابط شرطة، أي دون أن يكونَ لك أيّ إشكالٍ قانونيّ مع الدولة ولا أن يكون في سجلّك الجنائي أو القضائيّ أية شائبة.
 

بعبارة أخرى، "الدولة الحديثة" التي يكثرُ الحديثُ عن تغوّلها وقوة سطوتِها وشدّة تغلغلِها في حياة الفرد، يُمكنُك أن تكون بالنسبة لها مواطنا صالحا كامل المواطنة، وأن تكون "راضية عنك" وليس لك معها أيُّ إشكال. لكنّك يُمكنَ أن تكون في الوقتِ نفسِه مُجرِما في نظر "السّوق".
 

السّوق ليست بالسّيولة التي قد تبدو عليها في مقابل صلابة الدولة. السّوق ميدان لعلاقات القوة ولممارسات "السلطة"

أي أن السوق طوَّرَت ما يلي:
1- منظومة تعريف الفرد بالنسبة إليها: لك رقمٌ تعرفك من خلاله السّوق في مقابل الرقم الذي تعرفُك به الدّولة.
2- منظومة مراقبة للفرد: هناك تقرير مفصّل يشتمل على سلوكك الماليّ وأخطائك وعثراتِك في مقابل سجلّ الدولة القانونيّ والأمنيّ.
3- منظومة معاقَبة للفرد: إذا ساء رقم موثوقيّتِك فستُحرَم من كثير من الميزات بل حتى الحاجات في مقابل عقوبة الدولة لك بالسجن والغرامة إن خالفتَ القانون.
4- منظومة تهذيب وإصلاح: بإمكانك أن تحسّن رقمَك إذا ساء وترفع موثوقيّتك بالتالي، وذلك بأداء ما عليك وعدم التورّط في ديون لا تسدُّها أو التزامات لا تفي بها.
 

بالتالي، فالسّوق أكثر تعقيدا بكثير مما تبدو عليه، ونُظم الضبط والمراقبة والمعاقبة فيها لا تقلّ تطوّرا وفعالية وكفاءة عن الدولة، أي أن السّوق ليست بالسّيولة التي قد تبدو عليها في مقابل صلابة الدولة. السّوق ميدان لعلاقات القوة ولممارسات "السلطة"، حتى في أكثر أشكالِها رمزيّة.. ومع أن سببَ اختيارنا لفيلسوف "المراقبة والمعاقبة" رفيقا في جولة السّوق أصبح واضحا، إلا أنّ وقفة قصيرة مع ذلك لن تضرّ.
 

حيث لم يعد أمرا مستغرَبا ولا استثنائيّا أن تسمعَ نقدا يساريّا لفوكو باعتباره مال في أواخر حياتِه إلى "النيوليبيراليّة"، وتتعدّد تفسيرات ذلك وتبريراتُه، وإن كان من أوجَهِها أن ناقد السلطة العتيد كان لا بدّ أن يجد نفسَه في تناقض مع "الدولة"، خصوصا في التصوّرات والتطبيقات اليسارية والاشتراكية لها، فيُصبِح مفهوما بالتالي أن تشكّل الليبيرالية الاقتصادية، أو "السّوق"، بالنسبة إليه بديلا منطقيّا وعمليّا. ومع أنّ كاتب هذا المقال مؤمنٌ بصحة النتيجة التي انتهى إليها فوكو بخصوص الدولة -في السياق الغربيّ- ويشاركُه إعجابَه بالسوق الحرّة، إلا أن فوكو يظلُّ هو نفسُه أفضل من يقودُنا في جولة استكشافيّة ل"السلطة" في السّوق، وكيف يمكن أن تعملَ فيها آلياتٌ سلطة لا تقلّ كفاءة وخطورة عن نظيراتِها في الدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.