شعار قسم مدونات

عن الحنين لهبة شعبية

blogs - nwakshot
كان السبت والأحد (21 و22) من يناير 1995، يومان استثنائيان في تاريخ الاحتجاجات الشعبية بموريتانيا؛ ففيهما حدث إضراب هو الأبرز في تاريخ الدولة، هو إضراب الخبز، جاءت تلك الانتفاضة الشعبية المبهرة على خلفية زيادة سعر الخبز من عشرين أوقية إلى 25أوقية، حيث بدأ طلاب الثانويات الاحتجاج، رفضا لذلك الإجراء، أوقفوا الدراسة وخرجوا إلى الشوارع، ليلتحق بهم الشعب وكل الفعاليات النقابية والحساسيات السياسية والفكرية، طبعا كان من دون رفع شعاراتها، ولا الظهور بشكل علني، بل كانت اليافطة هي رفض الشعب لزيادة سعر الخبز، كان تفاعلا جميلا مع هم الشعب المسحوق، صرخ الجميع ضد جشع التجار وتحكم رأس المال، كسر الإضراب تجبر الشرطة؛ فلم ترتدع أصوات الرفض بسبب قمع قوى الأمن لها.
 
سبب حضور الإضراب ومشهديته في مخيلتي هو الحنين للرفض الشعبي المؤثر، أو توقع بقربه؛ كنتيجة لشدة قساوة الواقع

شمل الإضراب كل مقاطعات العاصمة نواكشوط، وتفاقم حضوره، حتى أنه أدى لنزول الجيش بدباباته في بعض مقاطعات نواكشوط؛ حيث خرجت قوات النخبة في الجيش نتيجة لضغط الإضراب، وأدى الإضراب إلى فرض حظر التجول لمدة عشرة أيام (بين 22 -31 يناير)، ونتج عنه إرجاع سعر الخبز لسعره الأصلي مع بعض التحايل كتخفيف وزنه، كان انتصارا شعبيا جميلا حتى وإن لم يطل وقته؛ فمع مرور الأيام والسنين، زاد سعر الخبز بسبب خفوت روح الاحتجاج الشعبي والمسكنات السلطوية المخادعة، وهو اليوم مائة أوقية، ارتفع سعره، كغيره من المواد الأساسية ولم ينخفض؛ فموريتانيا لا ينخفض فيها اليوم إلا "ثمن" البشر.
 

جرت أحداث الإضراب الملهم وأنا طفل في الابتدائية، واقتصرت مشاركتي فيه على حب الصخب، فلم أكن واعيا بالتأكيد بأهمية ذلك الفعل، فقط، مرت رياحه بمدرستي في مقاطعة "لكصر" بالعاصمة نواكشوط، لكن أستحضره اليوم، بعد مرور أكثر من عشرين سنة على حدوثه، كنموذج للرفض الشعبي في موريتانيا، وكتذكير لنفسي وللحالمين بالتغيير في وطني المسلوب بسردية مختلفة، وقد يكون التذكر هنا بغرض الخروج من حالة إحباط مزمن ومسيطر، تتلبسني منذ فترة، وأظنها تستوطن وجدان الكثيرين غيري. أحاول الخروج منها، عبر البحث عن مصادر تنثر روح الإيمان بإمكانية الفعل الشعبي.
 

وربما سبب حضور الإضراب ومشهديته في مخيلتي هو الحنين للرفض الشعبي المؤثر، أو توقع بقربه؛ كنتيجة لشدة قساوة الواقع، وإجابة لمعزوفة تكاد تصم هذه الأيام أذني، يكررها البعض وهي أن هذا الشعب لن يتحرك مهما بلغ الظلم، وأنه ليست لديه تقاليد في الرفض، بل هو شعب قدره الخنوع؛ فقد اختاره دينا ومنهجا للحياة، بل يصل البعض في التنظير إلى أنه شعب يستحق الظلم والسحق ومن الجرم الدفاع عن حقه في الحياة الكريمة، بل هو شعب في جيناته القابلية للاستعباد، هي معزوفة بالية تسبب التلوث الفكري وفيها تجني واستسهال؛ بل استشراق وعنصرية ذاتية شديد البلاهة، وتبرير سمج تروجه النخب الخائنة لتقاعسها عن دورها في عملية التغيير وارتهانها للثلة التافهة المسيطرة، وفي أحسن الأحوال، إسكات لوخزات الضمير يقوم به بعض" المقصرين".
 

وحتى لو فرضنا جدلا أن شعبنا خنوع وفي خصام مع الاحتجاج ولم يحرك ساكنا من قبل، وقلنا بكل وثوقيه أن تلك حقيقة راسخة، هل يعني ذلك تركه لواقعه البائس؟ أليس دور" النخب" والطلائع العمل على تغيير تلك الحالة الجمودية وجعله ينتفض على النظام الظالم حتى يستعيد كرامته؟
 

السردية الاحتقارية للشعب، تتغافل عن كون الإنسان هو الإنسان في أي مكان ومن التعالي المرضي بل الإجرامي وصم شعب باستحقاق الظلم، وأن شعبنا كغيره من شعوب الأرض يمر بفترات كمون وسكون أو إحباط وقلق، تجعل صوته يخفت، وأي هدوء في وجه الظلم تتحمل النخب مسؤوليته، لتقصيرها في كشف زيف الواقع بل تجميله أحيانا كثيرة، وأنه تمارس في حقه أبشع جرائم القمع وبشتى الأساليب: التراثية، الجسدية والاقتصادية.

لكن ذلك لا يعني أن قدر هذا الشعب السكوت على تجبر العصابة السلطوية الحاكمة، فتاريخنا يحتضن قصصا لحركات الرفض منذ الاستقلال حتى يومنا هذا، وقد ضحى العديد من أبناء هذا الشعب من أجل حياة أفضل، الكادحون وغيرهم من الحركات، القومية والإسلامية والحركات التحررية المناهضة للعبودية، استقطبوا المناضلين من هذا الشعب ولم يستوردوا أحدا لمشاريعهم النضالية الرامية لواقع آخر يناسب تصوراتهم، تغلغلوا وأثروا قدر الإمكان، وتجربة المعارضة التاريخية ونضالاتها من أجل الحرية وتفاعل الشعب معها، قصة تستحق الذكر أيضا، رغم واقعها الراهن المخيب والمحزن، وكل فترة تظهر موجات احتجاج مطلبية قد ينقصها طول النفس، لكنها دليل على حضور الاحتجاج كثقافة.
 

أعتقد اليوم، أن فعلا مشابها لإضراب الخبز، قابل للتكرار يبني عليه ويستفيد من أخطائه، وذلك بشرط عودة النخب للالتحام بالجماهير والاستماع لهمومها الحقيقية والتخفيف من نبرتها النخبوية، هذا بالإضافة لاستعادة الثانويات لدورها الفعال في الحراك الاحتجاجي، ورجوع ألق الجامعة النضالي، الجامعة التي تمارس فيها اليوم جريمة يندى لها الجبين، وهي محاولة تمييع نضال طلابها والنأي بهم عن واقع شعبهم، فكل صوت يخرج لهم يجابه بوصلة سعار شعبوية موغلة في الديماغوجية، تقول "لا تسيسوا الجامعة"؛ كأن الطلاب لا حق لهم في الاهتمام بالراهن السياسي والاجتماعي والحقوقي لبلدهم! يراد لهم أن يكونوا تماثيل شمع تنتجها البيروقراطية التدجينية الرسمية، لا روح لهم، ولا ينبسون ببنت شفة تجاه احتقار شعبهم.
 

أعرف أن الواقع مر كطعم العلقم والظلم يتزايد كتزايد الأموال التي ينهبها زعماء العصابة ويكنزونها في أرصدتهم، والرفض ليس في المستوى المأمول، ويحزنني أن جدران السجون تحجب الحرية عن بعض الشباب الناشط الناشد للحرية والتواق لغد أفضل، وأن التحرك الشعبي من أجلهم، خجول بل شبه معدوم، عكس جيراننا الماليين؛ الذين انتفضوا بشراسة منتصف أغسطس الماضي بعد سجن الصحفي الاستقصائي والناشط المالي محمد يوسف باتيلي أو "راس باث"- ذلك اسمه المستعار-.
 

ليس في ذهني أي مجال للشك في أن المثقف، الذي لربما يقول بعضهم إنه مثل روبن هود، مؤهل للتوحد مع الضعفاء، ومن لا ممثل لهم

هبوا مناصرة لصوت يفضح فساد السلطة، واحتجبت المؤسسات الصحفية وهددت بمقاطعة الحكومة، حتى رضخت الأخيرة وأطلقت سراح الصحفي في النهاية، لا يمكنني نكران أن كل المؤشرات والوقائع تبعث على التشاؤم والإحباط؛ فالسماء غير ملبدة بغيوم الأمل، لكن كما يقول الفيلسوف الملهم، أنطونيو غرامشي "إن تشاؤم العقل لا يقاومه إلا تفاؤل الإرادة"
 

خلاصة القول نحن بحاجة اليوم، لحراك شعبي يماثل حراك الخبز، منبثق من الشعب، يتوسع ليكون بداية تغيير جذري، وصناعة ذلك التغيير، تحتاج لمثقفين عضويين غرامشيين لا مثقفين مقاولين، ومثقفين ينطبق عليهم مفهوم المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد للمثقف، الذي أورده في كتابته "صور المثقف"، حيث قال: ليس في ذهني أي مجال للشك في أن المثقف، الذي لربما يقول بعضهم إنه مثل روبن هود، مؤهل للتوحد مع الضعفاء، ومن لا ممثل لهم. ومع ذلك، فإن دوره ليس بتلك البساطة، ولا يمكن بالتالي صرف النظر عنه بسهولة وكأنه مجرد مثالية رومنطيقية.
 

وجوهر الأمر أن المثقف، حسب مفهومي للكلمة، لا هو عنصر تهدئة ولا هو خالق إجماع، وإنما إنسان يراهن بكينونته كلها على حس نقدي، على الإحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والدائمة المجاملة لما يريد الأقوياء والتقليديون قوله. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.