شعار قسم مدونات

عن"ثقافة الانتحار"عند الآسيويين

blogs - roh moo hyun -
من ذكريات لقاء مع رئيس منتحر
كان الجو بارداً في صباح باكر من شتاء 2004، كنت أتمنى أن يطول انتظارنا قليلاً للتمتع باللوحات التي تزين جدران البيت الأزرق مقر إقامة الرئيس الكوري الجنوبي، لكن الرئيس رو ميوهيون أطل علينا في الوقت المحدد للقائنا دون أي تأخير.

بدا أنيقا جداً وهادئا جدا، رحب بنا مستهلاً حديثه بإبداء إعجابه الشديد بقناة الجزيرة وأطنب وأطال حتى خشينا أن يؤثر ذلك على الوقت المخصص للمقابلة.

كان الرئيس يحاول انتقاء كلماته بعناية فائقة، فالوضع الدولي كان بالغ الحساسية والتعقيد، فالبيت الأبيض كان يضغط على البيت الأزرق لإرسال قوات كورية جنوبية

عرّج بعدها على مصر وأهراماتها، فقد كانت الزميلة عزة الحديدي من وكالة أنباء الشرق الأوسط والزميل كمال جاب الله نائب مدير تحرير الأهرام ضمن الوفد المشارك في الزيارة، وكذلك الزميل حسن توانا من وكالة الأنباء الإيرانية فكان لا بد للرئيس أن يتحدث أيضا عن ولعه الشديد بالرمان الإيراني اللذيذ، وأنه قد تناول واحدة منه للتو. وليته لم يفعل فرمانة الرئيس كادت أن تتسبب لنا بمصيبة، إذ يبدو أن حسن لم يفهم كلام الرئيس واختار الزمان والمكان الخطأ ليستوضح.

كنا قد أصبحناعلى متن الطائرة نستعد للإقلاع عندما سألني حسن ماذا أكل الرئيس؟ أجبته باللغة الإنجليزية: " الرمان.. الرمان يا حسن" ولم ألاحظ أن لغة شكسبير لا تفرق بين هذه الفاكهة اللذيذة وبين القنبلة اليدوية، فكلاهما عند الإنجليز (غرينيد).

نظرات المسافرين توجهت نحونا كسهام، وعلى الرغم من ابتساماتنا المصطنعة وتأكيدنا أننا نتحدث عن الفاكهة، لكن سحنتنا الشرق أوسطية ولحية حسن الخفيفة كانتا تعززان الشكوك حولنا.

كان الرئيس يحاول انتقاء كلماته بعناية فائقة، فالوضع الدولي كان بالغ الحساسية والتعقيد، فالبيت الأبيض كان يضغط على البيت الأزرق لإرسال قوات كورية جنوبية إلى العراق لتمنح القوات الغازية هناك شرعية دولية، والضغوط الشعبية المعارضة للوجود الأميركي في كوريا الجنوبية كانت في أوجها، وأحزاب المعارضة المقربة من واشنطن تتمتع بأغلبية برلمانية.

لم يكن سهلاً على الرئيس روه مو هيون تقديم المبررات الكافية بأنه شخصياً يرى أن بلاده باتت قادرة على حماية نفسها، وأن الوجود الأجنبي على الأراضي الكورية لا بد أن يخضع لإعادة تقييم وتنظيم وتحديد للصلاحيات. هكذا قالها الرئيس بوضوح ودون مواربة. لكن مدير مكتبه سارع بعد اللقاء ليطلب منا عدم بث ذلك الجزء، لأنه قد يؤدي إلى إحراج الرئيس أمام قوى المعارضة ومع قوى دولية حليفة، رفضنا ذلك بالطبع.

كان بحاجة لإيجاد المبررات الكافية لإقناع نفسه وإقناعنا وإقناع المشاهدين بإرسال قواته إلى أراضي دولة أخرى، في الوقت الذي يطالب فيه بتحجيم القوات الأميركية على أراضيه، حاول جاهدا أن يربط أموراً كثيرة ببعضها ليؤكد أن دور قواته التي كانت تستعد للمغادرة إلى العراق هو المساعدة في إعادة الإعمار، وأنهم أطلقوا عليها اسم قوات الزيتون للتأكيد على سلميتها، (علماً أن الكوريين لا يعرفونه ولا يزرعونه).

وأضاف: إن تلك القوات تعكف على دراسة الثقافة العربية والإسلامية لإيجاد لغة تفاهم مشتركة مع العراقيين، استهوتنا هذه الفكرة وطلبنا تصويرها، رفضت وزارة الدفاع، ووافق مكتب الرئيس بعد مفاوضات شاقة وتولى مهمة إقناع الوزارة.

في القاعدة العسكرية لقوات الزيتون كانت مجموعة من الجنود الكوريين بلباسهم الزيتوني يتلقون درساً تطبيقيا باللغة العربية بعنوان "في صالون الحلاقة".
إلمام المدرس بلغة الضاد لم يكن أفضل من جنوده الطلاب. كان يقول ويعيد: "… ووضع الحلاّق فوطة بيضاء على ركبة كيم"، ويصر على ذلك ويشير إلى رقبته ثم يكتبها بأحرف كبيرة على السبورة.

لم نتحمل هذا الضيم على لغتنا على مرأى ومسمع منا، قاطعت المدرس وتدخلت:"هذه ركبة كيم يا أستاذ، وتلك رقبته والفرق بينهما كبييير"، استدرك الأستاذ معتذراً وأعاد الكتابة من جديد بشكل صحيح وبأحرف كبيرة (على رقبته)، وكانت خاتمة تصويرية جميلة لتقرير يتحدث عمن يتعلم لغة قوم ليأمن على رقبته.

لكنها لم تكن نهاية سعيدة للرئيس روه مو هيون الذي لم يعد قادراً على استيعاب اللغة السائدة والمتداولة من حوله فقرر أن يكسر رقبته بنفسه ويهوي من عل.ويضع حداً لحياته في الثالث والعشرين من مايو /أيار 2009.

ولد روه مو هيون لوالدين مزارعين عام 1946، وعاش طفولته فقيرا محروما .درس القانون ليصبح محامياً يدافع عن حقوق الفقراء، ثم قاضيا استهواه المعترك السياسي وحلم بتحقيق العدالة الاجتماعية ورفع الظلم وبتنظيف البلاد من آفة الفساد المستشري، كان أول سياسي في بلاده يدخل حلبة التنافس على الرئاسة من خارج دائرة القوى المتنفذة، انتخب عام 2002، وتولى منصب رئيس البلاد حتى عام 2008.

منذ دخوله البيت الأزرق شرع في حملة لتنظيفه من مظاهر الفساد الحكومي والإداري، ومن جشع الشركات وسطوتها، حتى عرف باسم "السيد نظيف" عزز من دور الإعلام وحرية الصحافة، وكان أول سياسي بكوريا الجنوبية يقبل أن تكون شخصية الرئيس موضع سخرية وتهكم في وسائل الإعلام. ونجح في تعزيز التقارب مع "الشقيق اللدود" كوريا الشمالية بعقد ثاني قمة تاريخية بين البلدين ساهمت في الحفاظ على استقرار واضح في شبه الجزيرة الكورية طوال فترة حكمه.

انهمك بمواجهة الفساد في مؤسسات الدولة، لكنه ترك ظهره مكشوفا ونسي بيته وعائلته والمحيطين به. فجاءته الطعنة من حيث لم يحتسب، إذ تورطت زوجته وابنه وأخوه في قضايا رشوة وفساد فورطوه، ليصبح ثالث رئيس كوري جنوبي يخضع للتحقيق بتهم الفساد وسوء استخدام السلطة. بعد ثالث جلسة تحقيق استمرت 13 ساعة خرج كسيرا محطما، ووصل إلى قناعة بأن "الحياة والموت سيان"، ترك رسالة قصيرة. يعتذر فيها لذويه ومحبيه،وضمّنها رجاء بأن يحرقوا جثته في قريته الصغيرة الوادعة، وكان له ما أراد.

ويحفل التراث الكوري بكثير من قصص الانتحار بل إن بعض الأدباء يختارون كتابة الصفحة الأخيرة من مؤلفاتهم بدمائهم

الانتحار قضية شبه يومية لا تخلو أي صحيفة منه في كوريا الجنوبية، وكأنه جزء من ثقافة المجتمع، وهو رابع أكبر مسبب للوفاة في البلاد، وتتجاوز نسبته أحيانا نسبة الوفيات الناتجة عن الجريمة وحوادث السير.
الكوريون كاليابانيين لا يعتبرون الانتحار عملاً مشينا أو غير مسؤول، بل هو بنظرهم وسيلة احتجاج أو قرار جريء يضحي فيه الفرد بنفسه من أجل الجماعة.

قبل روه مو هيون كان مواطنه رئيس "شركة هيونداي أساي" قد قام بعمل مماثل وبالطريقة ذاتها عندما قفز قفزة الموت من الدور الثاني عشر لمبنى شركته ليضع حدا للجدل الدائر آنذاك بشأن تقديمه رشوة لكوريا الشمالية تمهيدا لعقد القمة التاريخية الأولى بين الكوريتين عام 2000.
أما رئيس بلدية بوسان، ثاني أكبر المدن في كوريا الجنوبية، فلم يجد سوى ملابسه الداخلية ليشنق بها نفسه داخل أحد السجون.

ويحفل التراث الكوري بكثير من قصص الانتحار بل إن بعض الأدباء يختارون كتابة الصفحة الأخيرة من مؤلفاتهم بدمائهم، وكذلك أهل الكاميكاز من اليابانيين، ولم يكن مستغرباً أن يسجل فيلم "نادي الانتحار" أعلى نسبة بيع تذاكر.

والصين أيضاً ليست بمنأى عن هذه الظاهرة ولعل عيد الخمسة المزدوجة لإحياء ذكرى الشاعر تشو يوان، الذي ثار قبل أكثر من ألفي عام ضد ، ثم قرر الانتحار، أو كما يقول الصينيون -ويوافقهم الكوريون واليابانيون- قرر أن يحتج ويسجل موقفا،.. تماماً كما فعل الشاعرخليل حاوي عند اجتياح بيروت 1982. فكلنا على مايبدو في الانتحار شرق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.