شعار قسم مدونات

أشباه الكُتاب.. بين الأدب والهذيان

blogs- الكتابة

"وما أرى أحدا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكما نافذا بالأشغال الشاقة الأدبية، كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية، فاحكم على نفسك بهذه الأشغال سنتين أو ثلاثا في سجن "الجاحظ" أو "ابن المقفع" أو غيرهما، وهبها كانت في أبي زعبل أو طرة" .

 

كان هذا جزء من رسالة مصطفى صادق الرافعي الكاتب المصري المعروف للرد على صديقه الذي طلب تعلم الأدب، لكن يبدو أن الأمر لم يعد بهذه الصعوبة الآن. فمن يحتاج إلى البحث بين كتب الأدب القديمة لإيجاد نسخة متهالكة عاث فيها الزمن حتى اصفرت أوراقها، ومن ثم بذل الجهد النفسي والبصري في قراءتها.
 

يتطلب اكتمال العمل الأدبي اجتماع قوة اللغة مع التجربة وسعة الخيال وأمور ترتبط بالصفات الشخصية من جرأة الطرح والموضوعية.

كل ما تحتاجه يا صديقي للحصول على لقب "كاتب" هو اتباع الخطوات التالية، اقرأ بعض العبارات المتناثرة على مواقع التواصل الاجتماعي هل ترى تلك العبارات التي تحتوي على أحاديث الحب والفراق، ابدأ بنسخها ونشرها على صفحتك الخاصة. الخطوة التالية هي أن تبدأ بتقليد العبارات التي تحدثنا ولا تنسى الإكثار من الحديث عن المطر وزهرة اللوتس، اجعل خواطرك كئيبة وتتحدث عن الخيانة والغدر فهذا يجذب المتابعين.
 
والآن أرفق كلمة "كاتب" أو "كاتبة" إلى حساباتك الالكترونية وكأنها أحد ألقاب عائلتك ابحث عن المصفقين بين متابعيك وحافظ عليهم حتى يصفوا كل ما تنشره بالرائع، ولا ضرر في تكرار نشر الخواطر القديمة، كما يمكنك أخذ صورة "سيلفي" مع فنجان القهوة والتغزل بمرارة طعمها باعتبارها المشروب الموحد للكتاب.

 

بعد اتباعك للخطوات السابقة لم يبقى الكثير على نشر روايتك الأولى أو ديوانك الشعري الأول فقط عليك تجميع الكثير من تلك العبارات في مكان واحد، تكفي عدة سطور في الصفحة الواحدة فلست مضطرا لأن تملأها بالكامل هذا سيسهل عليك الأمر كثيرا.
 

لا تهتم بما يُسمى المراجعة اللغوية ولا تحاول جعل كل عباراتك فصيحة أكتب على طريقتك فأنت تكتب لتصبح كاتباً لا لأن يقرأ الناس. بهذه الطريقة يُصدر أشباه الأدباء من حديثي الأسنان كُتبهم التي تفتقر إلى البنية القصصية وإلى كل ما يمت للغة الأدبية بصلة من بلاغة وتشبيهات ورمزية وتشويق، كما تحوي هذه الروايات الكثير من السوداوية ونسب الخيانة والغدر للجنس الآخر.

هكذا انحطت نوعية الكُتاب والتي سيرفقها انحطاط في نوعية القراء الذين سيعتادون قراءة مثل هذا المنتج وسيفقدون الذائقة للتميز بين النصوص.

وإذا كان عمق القراءة يعطي الشخص متانة اللغة، تبقى مسألة قدرته على الإنتاج الأدبي من عدمها مرتبطة بعمق تجربته الإنسانية وإحساسه بألم القضية التي يسكبها حبراً، فيتطلب اكتمال العمل إذاً اجتماع قوة اللغة مع التجربة وسعة الخيال وأمور أخرى ترتبط بالصفات الشخصية من جرأة الطرح والموضوعية وغيرها.
 

بالتأكيد ليس المقصود هنا الدعوة إلى قمع كل محاولة أو التقليل من شأن كل كاتب صغير في السن، ولكن المقصود الدعوة لأن يأخذ المختصين زمام المبادرة لمتابعة هذا النوع من الكتب ونقدها لتمييز ما هو جيد بينها، كما يجب على من يملكون القدرة الحقيقية عدم التردد في النزول إلى ميدان الأدب والعمل على إنتاج ما هو جدير بالتخليد والنقل إلى الأجيال القادمة لتوثيق هذه الحقبة المفصلية من التاريخ العربي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.