شعار قسم مدونات

سنّوفوبيا

blogs - syria
لم يكن لديه أي تحفّظٍ ضدّ جماعةٍ بعينها، ولم تكن تعنيه الطوائف مجتمعةً، وكان يقيّم الفرد بناءً على ما يبدرُ منه لا بناءً على الجماعةِ المحسوبِ عليها.. إلى أن بلغَ الاصطفاف الطائفيّ ذروته في سوريا.
 

رأيتهُ بعد خروجه الأخير من المعتقل عام 2013 يتكلّم بمفرداتٍ لم أعهد سماعها منه قبلاً، ولاحظتُ الغضب الشديد في عينيه كلّما أتى على ذكر ما شاهده في المعتقل.

ودّعني موظّف ختم الجوازات مطلع عام 2012 في مطار دمشق -بعد رشوةٍ ماليّةٍ للضابط هناك لإزالةِ منع السفر- بعبارةٍ مفادها: ستخرجون جميعاً.. بعد أن قرأ بأني من حمص!

أطلقوا النار على أخيه "باسم" في المظاهرة، وأصابوه في يده، ثمّ اعتقلوا أخيه "أحمد" لشهور، وأعدموا ابن أخيه "عبد الرحمن" ميدانياً وهو يحاول الفرار من خدمته العسكرية، واعتقلوه في مطار دمشق وهم يهمّ وعائلته بالسفر إلى القاهرة، ولسوءِ الحظّ كلُّ ما حدث قد تمّ على أيدي أفرادٍ ينتمون إلى الطائفة العلوية، ويشتغلون في الأمن والجيش، ويسيلُ منهم حقدٌ تفشّى في كلّ سوريا.
 

زرتهُ يومها في القاهرة حيثُ توجّه بعد خروجه من المعتقل، وحين هممتُ أحدّثهُ لاحظتُ بأنه لم يكن يسمعني جيداً لأكتشف بعدها من أمّي بأنه فقدَ السمع في إحدى أذنيه نتيجةَ ما لاقاه في المعتقل، وحكى لي لاحقاً عن مشاهدتهِ لرجلٍ أجبروه على ممارسة الفاحشة مع ابنه ثمّ ضرّجوه دماً حين رفض، واستطرد ذاكراً لي كلّ العبارات الطائفيّة التي سمعها هناك.

أنا أيضاً ودّعني موظّف ختم الجوازات مطلع عام 2012 في مطار دمشق -بعد رشوةٍ ماليّةٍ للضابط هناك لإزالةِ منع السفر- بعبارةٍ مفادها: ستخرجون جميعاً.. بعد أن قرأ بأني من حمص!
 

لم يكن المخرجُ المسرحي "محمّد" طائفياً من قبل، والدليلُ على ذلك موقفُ الماثلِ أمامكم، والذي نشأ في بيته الذي لا يأتي فيه ربُّه على ذكرِ الطوائف.

اليوم في "روتردام – هولندا" بعد أن خسر والدي كلّ ذكرياته في "حمص" مع منزله الذي أصبح كومةً من الأنقاض، وهُجّر قسراً من مدينته التي لم تعد صالحةً للعيش.. يعبّر "محمّد" عن رأيه تجاهَ ما يحدث في سوريا بكلّ حنقٍ على العلويين، ويجمعهم في بوتقةٍ واحدةٍ.
 

لكن لو سألته عن رأيه بصديقه "سامر" الذي يرفضُ نسب نفسه إلى طائفة فإنه سيقول لك: أحبّه جداً وأحترمه!

هنا تستطيع أن تفهم بأنَّ والدي العاجز عن الإساءة إلى عُصفور، ومثلهُ كُثُر يجتاحهم غضبٌ لمّا يهدأ بسبب ممارسات النظام التي تتطوّر في الإجرام أكثر فأكثر.

وحين يسألني في المقابلِ كثيرون: لماذا تحمّل السنّة في سوريا ما لا طاقة لهم به، وأنت تعلم جيداً بأنهم أكثر من تضرّر في هذه الحرب؟

أقول ببساطةٍ: لأنهم الأخُ الأكبر، والحاضنُ المستوعبُ لكلّ مخاوفِ أخوته الصّغار، ولأن السنّة في سوريا إذا فقدوا صوابهم فعلى سوريا السلام.
 

أعلمُ جيداً بأنَّ والدي الذي يؤرّق نومَه مواءُ قطّةٍ جائعةٍ في الشارع، ويحسبُ ألف حسابٍ قبل التفوّه بأيّ كلمةٍ قد تزعج الطرف المقابل له.. لا يستطيع تنفيذَ حرفٍ مما يكتبه تجاه العلويين، وأثقُ بأن نسبةً كبيرةً ممّن قابلتُهم من أصدقائي ومعارفي ممّن يجتاحهم الغضب، ويتّسم خطابهم بالتحريض الطائفيّ ما هم إلا بشرٌ طيّبون كانت لهم حياتهم، ونشاطاتهم إلى أن استفزّتهم ممارسات نظام الأسد المستمرّة، والتي أُرادَ بها توريط العلويين لئلا يكون لهم خيارُ العودة، وإثارة غضب السنة واستفزازهم لإخراج متطرفيهم، وذلك كلّه لتحويل ما يحدث في سوريا من ثورة شعبٍ أعزل ضدّ سلطةٍ حاكمة إلى حربٍ أهليّة بين فئات الشّعب، ولربط وجوده بحماية الأقليات، ومحاربة الإرهاب الذي صنعه من جهة، وسبّب وجوده من جهةٍ أخرى.
 

كلّي ثقةٌ بأنّ كلّ ما يجري من اصطفافاتٍ وتحريضٍ ضمن هذه الحرب إنما هو آنيّ، ومرهونٌ بوجودِ مُنشبي نيرانها.

هذه "السنّوفوبيا" التي تسيطرُ على كثيرٍ من أبناء الأقليات في سوريا -المعارضين لنظام الأسد ومؤيديه- مبرّرة، وكذلك التطرّف الذي اتّسمت به أفعالُ، وآراءُ الكثيرين من السنّة ممن وقفوا ضدّ النظام طبيعيّ، وناتجٌ عن تطرّف بدأته مؤسسات الأمن، واللجان الشعبيّة، والجيش، ورافقه استفزازٍ مرئيّ ومسموع لمّا تمارسه وسائل الإعلام الرسميّ.

كلّي ثقةٌ بأنّ كلّ ما يجري من اصطفافاتٍ وتحريضٍ ضمن هذه الحرب إنما هو آنيّ، ومرهونٌ بوجودِ مُنشبي نيرانها، فلا السنّة تمثلهم داعش وأشباهُها، ولا العلويّون يرون في اللجان الشعبيّة، والدّفاع الوطنيّ ضماناً لمستقبل أبنائهم.

الكلّ متمترسٌ اليوم مع جماعته لأنه فقد الأمانَ كفردٍ حرّ، وفقدانُ الأمان كان صنيعةَ من نفّذ ما قاله في خطابه بأنه: لا مكان في سوريا اليوم لعديمي المواقف تجاه ما يحدث.. فإما أن تكون مع سوريا المفيدة أو ضدّها!

ولا حلّ يقينا من استمرار هذه الوحشيّة إلا في وأد الفكرِ التحريضيّ، وتعزيز مفهوم المواطنة كمظلّة للجميع بمعزلٍ عن انتماءاتهم الضيّقة، وهذا كلّه لن يتمّ في ظلّ وجود نهج البعث الإقصائي الشموليّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.