شعار قسم مدونات

مُثقف في حارتنا

blogs - nai
إن كانت هُنالك مُشكلة نفسية أعاني منها ولا أُريد عِلاجها، هيَ أنيّ لم أعد أستطيع مُفارقة شُرفة منزلي. انتبهت إلى عادتي هذه منذُ سبعة أشهر تقريبًا، عندما كانت أُمي تُناديني لأتناول الغداء، فلم أقبل على الإطلاق، كانت بي رغبة مُلحّة أن لا أدخل كـالعادة، وأن يُقدم لي الماء والغذاء هُناك، على الشُرفة فقط.

طلبتُ أن يُقدّمَ لي الغداء دائمًا هُنا، وصرت أقضي الليالي بطولها والنهارات على الشُرفة، إلى أن تفاقمت حالتي وبتُّ أنام أيضًا، ولم أعد أُفارقها إلا إذا خرجتُ من المنزل، أو دخلت المرحاض، أو لأجلب كتابًا جديدًا من مـكتبتي. بعد ذلك، صرت آخذ مجموعة كبيرة من الكُتب، لأتجنب الدخول كثيرًا، بتُّ أكرهُ الأماكن المُغلقة، والضيّقة، غُرف النوم، المطبخ، كُل شيء.. كُلَّ شيء يحدّهُ أربعة جدران.. وأخافُ من يومٍ، لا أعرف إن كان سيأتِ، أُدرك فيه أنيّ مُجرد مكان مُغلق، يضج بالأُمنيات والأسئلة والأفكار والتفاهات والغرائز والظلمة الحالكة، وكُنت قد قـررتُ من الآن، أن أبدأ بـِ استراتيجية جديدة كي لا أصل إلى هذا اليوم، وكلُّ ما أحتاجه، هو قلم، فضول، ورق، ساحات فارغة، والكثير من الـخيال.

وصلتُ لمرحلة من توّسع الخيال، إلى حدٍ لا يُطاق على الإطلاق، وأدركتُ من وقتها، أن الخيال نقمة كـما هوَ نعمة، وأدركت أيضًا أن قلمي وكتاباتي ومجتمعي والكون، لا يُناسب خـيالي، وأريدُ شيئًا من إعادة التوازن، وهذا الذي لم يحصل حتى الآن. استشرس بي الـفضول، وحب المعرفة. أن أعرف كُلَّ شيء ابتداءً من أتفه التفاهات، إلى أحاديث الناس في المقهى والمطعم والجامعة وضيوف أُمي، وأحاديث أعمال والدي، حتى إلى "ما الذي كان يُضحك أميل سيوران".

صارت موارد الفضول شحيحة عندي، جدًا.. وأصبح لديّ فراغُ كـبير في يومي لا يملؤهُ شيء. من حُسن حظي، أنّه كان لدي جار، لا أعرف من هو ومن أين وما اسمه. كان شعره ناعمُ جدًا، أجعد العينين، ضعيف البُنية، وهزيل، وضيّقُ المنكبين، والسيجارة لا تُفارق فمه، حتى أن بعضًا من مُحيط شفاههُ وأصابعه اكتست بـصفرة فاهية، وهذا ظاهر مُقارنةً مع شحوب وجهه وقلّة تعابيره وملامحهُ. كان يعود كُل يوم قُرابة الساعة الواحدة ظُهرًا، مُصطحبًا بعض الأغذية والعصائر، التي كانت تكفي لشخصٍ واحد فقط، وكان يصطحبُ كتابًا جديدًا كُل يوم. كِتابٌ أعرفه من غلافه، وآخرٌ لا.

إن النفس الـبشرية فيها من الإمكانيات ما يتيح لها مع مرور الوقت، أن تتطبع بطبائع الندِّ لها، إن أرادت هي ذلك.

اكتشفت بعد عدّة أيـام أنَّ شُرفته كانت تُقابل شُرفتي، ولكنّه لا يجلس كثيرًا، كان هذا نادرٌ جدًا. قـررتُ أن أُراقبه، أُراقبه عن كـثب، وآخذَ بعضًا من حركاته وصفاته، مادةً جديدةً لـقصة قـادمة أعمل عليها، وأردتُ أن أُسمّيها "مُثقف في حـارتنا". واعتمدت هـذا الاسم، بعد أن تأكدت من مُراقبتي أنّه كان يقضي مُعظم يومه في القراءةِ والكِتابة، بعد أن أنظر من نافذتي ناحية نافذتهُ. سـوف يقول أحدهم بِلا شك، ما هذا الفضوليّ الأرعن، وإن أردت أن أردَّ على أحدهم، سأقول له: هذه مُشكلة، وبحكم أنّ من تتكون لديه مُشكلة نفسية أُخرى، لن يدري بها، لكن أنا أدري، أدري جيدًا، وأُحبّها بقدر عدم اتّزانها.

المهم، أنّه صار ينتبه أنيّ أقضي وقتًا كثيرًا في مُراقبته، وحسبَ ما أعتقد، أنّهُ لم يكن يُعير أيّ اهتمامٍ لهذا. وفي يومٍ ما، رأيتهُ يحمل كِتابًا "ثلاث مَباحث في نظرية الجنس"، لعالم النفس "سيغموند فرويد". قررتُ وقتها، أن أشترِ الكتاب وأقرأهُ، وهـكذا.. صرتُ أنتظر لأرى ما يحمل من كُتب، لأقرأهم، وأستطيعُ أن أفهم نفسيتهُ وما يُفكّر فيه أكثر وأكثر.

توّصلتُ إلى نتيجة واقتنعت بها في الأونة الأخيرة، ألا وهيَ : "إن النفس الـبشرية فيها من الإمكانيات التي تُتيح لها مع مرور الوقت، أن تتطبع بطبائع الندِّ لها إن أرادت هي ذلك، وبالمقابل، إن أكثر ما يُجبرنا على التكيّف مع وضع محدد، ليست الإغراءات بقدر فضولنا لمعرفة الإنعكاسات السلبية لهذا الوضع، وكيفية تحويله لشيء إيجابي مؤسس على قاعدةً فكرية. إننا بطبيعة أنفسنا، بنا من السذاجة ما يجعلنا نُصدق كُلَّ مألوف، والذكي هُنا هو من استطاع أن يجعل تلك الغرابة طبيعةً مألوفة لنفسه ومُحيطه، لا الأحياء، إنما الأشياء.

وذات يوم وصل جاري، وبيّده كتابًا تحت عنوانٍ عريض "الفضول" للكاتب والمترجم الأرجنتيني "ألبرتو مانغويل". هُنا استبدّ بي الفضول، أنيّ ذهبت مُسرعًا للمكتبات لأبحث عن الكتاب وأبتاعه، وأعرف ماذا يدور حول هذا العنوان الجميل والشيّق. وبالفعل، جلبت الكتاب وقرأته، وأكثر ما لفتني في الكتاب فكرة، "أننا نحنُ نريد أن نعرف كيف تعمل أشياء هذا العالم الغامض والمكتنف بالألغاز الذي وجدنا فيه دون إرادتنا، ثم إننا نشعر بالحاجة المستمدة من أسلافنا لربط علاقات مع سكان آخرين، فبعد أن نكون قد نطقنا بأول زقزقاتنا وثغثغاتنا، نشرع في طرح السؤال التالي "لماذا؟"، ونحن لا ننقطع أبدا عن طرح مثل هذا السؤال.

ونعاين مبكرًا أن هذا الفضول نادرًا ما يُجازى بأجوبة مُرضية وذات معنى دقيق، وإنما هو يجازى برغبة تظل تكبُر دائمًا في طرح أسئلة أُخرى، وبمتعة في إثارة الجدل مع الآخر. وكما يعلم السائل، فإنَّ التأكيدات عادة ما تعزل، في حين أن الأسئلة تكون مهمتها التواصل، وتوثيق العلاقات. إن الفضول وسيلة للإعلان عن انتمائنا للعائلة الإنسانية. وألبرتو مانغويل يقصد في كتابه هذا، الفضول المعرفي الذي يرافق الإنسان من بداية حياته إلى نهايتها. بعدَ هذا صارت تتوسع نـشاطات فـضولي أكثر فَـأكثر.

الفضول وحده هو الذي جعلني أخرج من عزلتي، وهو ما يجعل العلاقات البشرية تترابط بداياتها بنهاياتها، والعكس بالعكس.

وبـينما أتصفحُ المقالات الإلكترونية الجديدة، في جـرائدنا المحلية، لَفتني مـقال تحت عِنوان "فضوليٌّ أرعن في حـارتنا، كان يُشابه مـقالي لدرجة أنّه في بادئ الأمر حسبته قِصتي التي تدور حوله، وبعدها أدركتُ أن كل الإختلاف الموجود هو الإسلوب في الكِتابة، وأن الكاتب الذي تبيّن لي أن اسمه "ناظم"، كان قد كتب مقالاً مثل أفكار قِصتي ولكن بشكلٍ معكوسٍ تمامًا، فالأحداثُ الأخيرة في قِصتي، تحتلُ الأسطر الأولى في مقاله.

بعد الإنتهاء من قراءته، هرعتُ مُسرعاً ناحية حافة الشُرفة الثانية، لأراه جالسًا على شُرفته، ابتسمنا ابتسامةً خفيفة، وعرفتٌ وقـتها أن الفضول وحده، هو الذي جعلني أخرج من عزلتي، وأنّ الفضول وحده، هو ما يجعل العلاقات البشرية تترابط بداياتها بِنهاياتها، والعكس بالعكس.

نعم، كان كُل ما ينقصهُ شُرفة و فضول ليغدو سعيدًا، و كل ما ينقصني ابتسامة وأناس، لأعرف كم أن التفاصيل الغامضة في هذه الحياة جميلة، وما كانت في يومٍ من الأيام مُشكلة. "لستُ أنا وجاري الغُرباء، هذه القيّم، هذه الغرابة الاجتماعية في التعامل مع الحياة، غريبةٌ عنّا"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.