شعار قسم مدونات

محايد أم مستقل؟

blogs - man
يقول المفكر التركي الكبير جميل مريتش رحمه الله إن "الحياد في المكان الذي يقع فيه الظلم يعني انعدام الشرف" ويقول أيضا إن "الحياد هو انعدام الشرف. أنا منحاز للحقيقة". وهناك مقولة أخرى مأثورة من المناضل الأمريكي المسلم مالكوم إكس رحمه الله وهي: "الرجل الذي لا يقف إلى جانب شيء سيقع لأي شيء".

هناك أسباب عديدة ليفضل الناس أن يبقوا محايدين أو أن يتظاهروا بالحياد، كعدم معرفة الحق أو الخوف من التورط في مشاكل بسبب وقوفهم إلى جانب المظلوم. ولكن هناك عاملا آخر يدفع الناس إلى الحياد أو التظاهر به، وهو الرغبة في البقاء بعيدا عن التصنيف مع شخص أو جماعة أو حزب أو تيار. وهذا الأخير نراه اليوم على وجه الخصوص بين المثقفين والساعين إلى الالتحاق بالنخبة المثقفة.

الخوف من التصنيف قد يتحول إلى ورقة بيد خصوم شخص أو حزب أو جماعة ليستخدموها ببراعة في حروب نفسية وعمليات استخباراتية.

رغبة أي إنسان في عدم تصنيف اسمه مع من لا ينتمي إليه يمكن تفهمها، ولكن هذه الرغبة في بعض الأحيان تصل إلى مستوى يجعل صاحبها يتجنب تأييد الحق والوقوف إلى جانب المظلوم خشية التصنيف. وإذا نجح في التغلب على خوفه قليلا ليتجرأ على الحديث والخروج من الحياد إلى الانحياز للحق، يجد نفسه مضطرا ليبين أولا أن تأييده لشخص أو حزب في موضوع معين أو وقوفه إلى جانبه في موقف ما لا يعني بالضرورة أنه يؤيد كل آرائه ومواقفه.

الخوف من التصنيف قد يتحول إلى ورقة بيد خصوم شخص أو حزب أو جماعة ليستخدموها ببراعة في حروب نفسية وعمليات استخباراتية، حيث يشهرونها في وجه أي مؤيد لذلك الشخص في موقف ويتهمونه بالانتماء إليه والتطبيل له، ما يجعل المؤيد المتخوف من التصنيف يشرع في انتقاد ذلك الشخص ليثبت عدم انتمائه إليه. وهكذا يتحول التأييد لموقف إلى موجة انتقادات توجه إلى صاحب ذلك الموقف.

هذا الأسلوب تم استخدامه وتوظيفه قبيل إسقاط الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي بانقلاب عسكري حتى لا يتلقى تأييدا واسعا من خارج جماعة الإخوان المسلمين، من خلال اتهام كل من يدافع عن الرئيس الشرعي ويقف إلى جانبه في مواجهة حملات التشويه الشرسة بأنه إخواني، وهو ما دفع كثيرا من الشباب إلى السكوت أحيانا والمشاركة في حملة انتقاد الرئيس مرسي أحيانا أخرى، خوفا من التصنيف كأحد مؤيدي الجماعة. وهكذا تم استغلال عدد كبير من الناشطين الثوريين المناهضين لنفوذ العسكر والرافضين لعودة فلول نظام مبارك إلى الحكم، في تمهيد الأجواء لانقلاب عسكري، ووقعوا في الفخ وهم لا يشعرون.

الأسلوب ذاته يكررونه منذ فترة لاستهداف رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان وتشويه سمعته، ويوجهون إليه كل يوم انتقادات جديدة وتهما مختلفة، لكي يتعب المدافعون عنه من نفي الأكاذيب والافتراءات أو يخافون من الاتهام بالتطبيل لأردوغان ليشاركوهم في بعض الانتقادات الموجهة إلى الرئيس التركي ويسهموا في حملات التشويه والدعاية السوداء لتبرئة ساحاتهم من تهمة التطبيل والانحياز الأعمى.

المثقف لا يكون رهينة للتصفيق وما يقوله الناس عنه، بل يجب أن يكون واعيا وفطنا ليدرك الفرق بين الاستقلالية والحياد والانتقاد والركوب مع موجة الآخرين.

هناك نوع آخر من الشباب يتظاهرون بالحياد لتوزيع التهم والانتقادات يمينا وشمالا، ويدّعون بأنهم الوسط بين المتطرفين. وإذا علقوا على موضوع يختلف فيه اثنان أو ثلاثة تجدهم ينتقدون جميع أطراف الخلاف ليحافظوا على سمعتهم بين جمهورهم، وقد يكون هذا الجمهور مجرد أوهام. هؤلاء يعيشون في قصورهم العاجية الافتراضية رفاهية انتقاد الجميع وعدم تحمل أي مسؤولية، وإذا تعرضوا هم للانتقاد يفتخرون بأن هذا الانتقاد بسبب حيادهم ووقوفهم في الوسط.

المثقف لا يكون رهينة للتصفيق وما يقوله الناس عنه، بل يجب أن يكون واعيا وفطنا ليدرك الفرق بين الاستقلالية والحياد والانتقاد والركوب مع موجة الآخرين، حتى لا يخدم الدعاية السوداء عن غير قصد، ولا يتم استغفاله واستغلاله كإحدى أدوات التشويه والتضليل دون أن يشعر، كما يجب أن يدافع عن الحق ولا يخاف في الله لومة لائم ويقف إلى جانب المظلوم دون أن يلتفت إلى ما يتهم به بسبب هذا الموقف.

رحم الله جميل مريتش ومالكوم إكس وكل مناضل حر شريف عرف أن الحياد بين الجاني والضحية هو عين المشاركة في الإجرام، وانحاز للحق، ولم يتردد في الدفاع عن المظلوم والوقوف إلى جانبه دون النظر إلى دينه ومذهبه وجماعته وقومه ولونه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.