شعار قسم مدونات

باروكة الوطن

blogs-انتخاب
-انحنى الى الأمام… وضع الباروكة ثم رفع رأسه وأخذ يعدّلها وهو يبتسم لعينيه في المرآة، "والله لتطلع الصورة دمار"… دمار؟ رنت الكلمة في عقله فأبى أن يستعملها في جمل أخرى وتجاهل "دمار الوضع الاقتصادي"… "دمار العراق"…"دمار سوريا"… "دمار الطفولة"… أشغل نفسه عن الكلمة بترتيب هندامه، وضبْط باروكة شعره المستعارة كي تليق بصورة "مرشح الوطن".
 

-على الواجهات الإعلانية وفي منتصف الأرصفة في الشوارع ذات الاتجاهين وبين الشجر والحجر وفوق العمارات وتحتها، يبدو في الصورة مليح الوجه بخدود متورّدة وأسنان لامعة… "ما الذي جرى؟" ضحك رهط من الرجال وهم يعلقون على الصورة: "لون البشرة والشعر يا جماعة الخير!"، تصدح القهقهات في ليلة سمر صيفية حارة في إحدى قرى الشمال البعيدة التي يُمثل المرشح النيابي إحدى عشائرها… ولكنه يقطن في العاصمة.
 

كما يحتاج الإنسان للباروكة من أجل أن يحسّن صورته، يحتاج الوطن إلى شعر مستعار يمتد من الشمال إلى الجنوب يغطي العيوب ويغفر الذنوب ولو مؤقتاً

-"الوقت من ذهب، لكننا يمكن أن نُضيّعه بالكلام الفارغ لحين يوم الانتخابات الحاسم، فالناس تعشق الكلام والشعارات وتكره النقاط والبرامج الانتخابية المرتبة؛ شوفوا مجلس النواب في الدول المتقدمة نحن لسنا أقل كفاءة منهم"، يهز المُجتمعون رؤوسهم بدون تعليق وهم يستمعون لخطة الدعاية الانتخابية للمرشح الفلاني "أبو باروكة"، وفي وسط القاعة يُعدّل جلسته، ويدخن السيجارة ويتُكّها في صحن أمامه ويعود للكلام: "خيمة مُكيّفة، ودعوة الجمهور للولائم، الشعب يُحبّ أن يأكل وهو يسمع، " يضحك الفريق الانتخابي ويصفقون وبطونُهم "تُصوْصو" جوعاً.
 

-"باروكة النائب أقصد المرشح النيابي تشبه الغطاء الذي يُسدل على عيوب الوطن، أليس لكل أحد في هذه الدنيا عيوب؟
وكما يحتاج الإنسان للباروكة من أجل أن يحسّن صورته ويخفي صلعته، يحتاج الوطن إلى شعر مستعار يمتد من الشمال الى الجنوب… يغطي العيوب ويغفر الذنوب ولو مؤقتاً، " تدور في خلد الشاب الموظف البسيط خواطر عديدة وهو يتأمل صور المرشح، لم يقرر بعد أن ينتخب ولا أن يقاطع، لكن حسرته على حال البلد وحال الشباب أمثاله تجعله يفكر أكثر "ترى هل من أمل في الانتخاب؟".
 

-"أمل ماتت" يضحك الموظفون وعين كل منهم على حاسوبه إذا ما مرّ المدير الإداري، يرفع أحدهم كأس قهوته الساخنة… "في صحة النواب والمال العام السايب… والمال السياسي وشراء الأصوات وكل المسميات"، يحلّ الصمت على المكاتب فالجميع متفق والجميع يعرف… والجميع لا يفعل شيئاً سوى متابعة العمل والعمل واللهث وراء الرزق.
 

– صباح يوم الانتخابات ينسى مرشحنا الباروكة، كما نسي القائمة الانتخابية التي ينتمي إليها وأعلن عن نفسه فردياً ونسي البرنامج الانتخابي الذي بقي في الأوراق بدون أن يقرأه أحد، كان يجوب المقار الانتخابية ويدعو الناس للانتخابات، و"صلعته" تلمع من العرق في عيون الناخبين الغامزين حول غياب الباروكة.
 

– صباح النتائج، يستيقظ من غفوة لم تتجاوز الساعة بعد ليلة حافلة، يرتدي بدلته على عجل، يضع الباروكة باللحظة الأخيرة بتعجل أكبر ولا ينتبه إلى ميلانها عن إحدى أذنيه بوضوح. يخرج الى فريقه الانتخابي منفوخ الصدر؛ فالنتائج حتى آخر لحظة قبل نومه كانت لصالحه.
 

– "الوطن لم يعد بحاجة إلى نواب يرتدون شعرا مستعاراً، فهؤلاء لم يعودوا ينوبون عن الشعب، لقد أصبحوا ينوبون عن مصالحهم ومصالح من يُصالحهم ومن يرعاهم ومن يرعى من يرعاهم"… يقول وهو يدفع بغضب الجريدة الصباحية عن طاولة الإفطار الصباحي، ينظر الى وجوه أبنائه المتحلقين حول المائدة في يوم عطلة الانتخابات.
 

– هي ليست المرة الأولى التي يترشح فيها "أبو باروكة" لمجلس النواب ويفوز، لقد انتخبوه سابقاً وانتخبونه الآن وليس هذا مهم لأنهم يدركون أن كل ما سيأتيهم من تمثيل هي بضع خدمات آنية فردية، وبعض الوظائف من هنا وهناك، وولائم يُدعون إليها قُبيل الانتخابات وبعد فرز النتائج، هم يعرفون أنه يضع الباروكة، الناس كلها تعرف ذلك، يعرفون أن لون بشرته غامق وأن عيناه لا تلمعان، الوطن كله يعرف ذلك، لكن أحداً منهم لم يتجرأ ولم يستطع أن يقول له: "باروكتك مائلة عطوفة النائب"
 

*مشاهد من انتخابات مجلس النواب في الأردن، والتي ستجري في العشرين من سبتمبر الحالي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.