شعار قسم مدونات

بين الطهطاوي و الأفغاني سؤال النهضة الإسلامية الغائبة؟

blogs-شيخ
لماذا تأخر المسلمون و تقدم غيرهم ؟ إنه السؤال الذي حارت له ألباب المثقفين المسلمين في القرنين الماضيين بعد أن استيقظ المسلمون ذات صباح ليجدوا الأوربيين قفزوا قفزات كبرى في الحضارة و العلوم وبلغوا درجة من القوة أن سقطت مصر في قبضة الفرنسيين ووصلت جحافل القوات الروسية إلى البحر الأسود وأصبحت تهدد إسطنبول عاصمة الخلافة وأسقطت الدولة الإسلامية في الهند وأصبح المسلمون في هوان وضعف بعد أن كانوا لقرون في عزة ومنعة.
 

إن أول من انتبه إلى التفوق الحضاري الكبير للغرب عن الشرق لا في المجال العسكري فقط بل في المجال الفكري والسياسي هو رفاعة الطهطاوي الذي أرسل في بعثة إلى فرنسا في زمن محمد علي وأصيب بصدمة حضارية كبرى دفعته ليؤلف كتابه الرائع ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز) والذي يقول في مقدمته يحث المسلمين على البحث عن ما وصوفه بالعلوم البرانية والفنون والصنائع لأن كمال هذه العلوم ببلاد الإفرنج أمر ثابت و شائع.
 

الحل لأزمة غياب النهضة الإسلامية عند الطهطاوي هو في إرسال البعثات إلى أوروبا و اقتفاء درب الحضارة الغربية كما فعل محمد علي باشا.

ثم يقول اسأل الله أن يوقظ بكتابي من نوم الغفلة المسلمين من العرب و العجم لأن من وصفهم بالبلاد الإفرنجية بلغت مراتب البراعة في العلوم الرياضية و الطبيعية وعلوم ما وراء الطبيعة بل إن الطهطاوي يستنكر أن بعض الإفرنج بلغوا القمة في بعض العلوم العربية و توصلوا إلى فهم دقائقها وأسرارها واستنكر الطهطاوي أن البلاد العربية برعت في العلوم الشرعية والعربية والعقلية النظرية وأهملت العلوم الحكمية بجملتها فاحتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه وجلب ما تجهل صنعه رغم أن أصل العلوم يعود إلى البلاد الإسلامية في أيام قرون أوروبا المظلمة.
 

والحل لأزمة غياب النهضة الإسلامية عند الطهطاوي هو في إرسال البعثات إلى أوروبا واقتفاء درب الحضارة الغربية كما فعل محمد علي باشا لأنه عبر هذه الآلية وحدها يمكن إعادة نهضة الشرق مع عدم الالتفات إلى لوم عوام الناس للباشا استقدامه للأوربيين لمصر وتمكينهم من مفاصلها لأن طبع العوام الجهل ( بإنسانية ) وعلوم الغرب وأن أكثر ما يستنكرونه من الغربيين أنهم نصارى فقط.
 

و لكن الطهطاوي لم يصب طريق الرشاد رغما عن دقة ملاحظاته في رأيي فقد كان متملقا للباشا محمد علي ولأسرته و طالما أطنب في مدحه في كتبه ووصفه بالمتولي على بلاد مصر وب ( ولي النعمة ) وب ( محمد الاسم عليّ الشأن ) ورغم هذا التملق فقد غضب حفيد محمد علي الباشا عباس على الطهطاوي فعبس في وجهه وأصدر قراراً بنفيه إلى السودان مدرساً.
 

والأزمة الرئيسية في فكر الطهطاوي هو أنه كان مثقفا إصلاحيا ينتظر الإصلاح من السلطة دوما والعجب العجب فكيف برجل ذهب إلى فرنسا في القرن التاسع عشر أن لا يكون قد قرأ و أو تأثر بالثورة الفرنسية و بمبادئها الخالدة (حرية وعدالة ومساواة) وبمثقفيها وخصوصا جان جاك روسو وعقده الاجتماعي فكيف له أن لا يكون مثقفا ثوريا لا يرى صلاح الأمة في تخليصها من الحكام الفاسدين  ويختار أن يكون مثقفا إصلاحياً.
 

و في عام 1870م جاء الأفغاني إلى مصر من الهند وبه حدثت نقلة كبرى في محاولة الإجابة عن سؤال التخلف الذي حل بالأمة الإسلامية وعن كيفية اللحاق بالنهضة الغربية وفي خان الخليلي في القاهرة كان الأفغاني يجمع تلاميذه ليخبرهم أنه لا إصلاح يرجى من حاكم فاسد وأن على الأمة أن تثور لتنال حقوقها و تطيح بالطغيان السياسي وفي هذا يقول الأفغاني جملته المشهورة (هُبّوا من غفلتكم اصْحوا من سكرتكم انفضوا عنكم الغباوة والخمول وشُقّوا صدور المستبدين بكم كما تشقوا أرضكم بمحاريثكم )
 

اتجه الأفغاني بكل شجاعة مهاجما الأزهر وداعيا لإصلاح الخلافة و تحويلها إلى جامعة إسلامية و مطالبا بنهضة حديثة لكن على وفق قواعد الإسلام

ولكن الأفغاني تم مواجهته بعلماء السلطة ووكلاء الشرطة الذين جلسوا يحرضون الناس عليه وهذا ما دفعه للصدام مع السلطة الدينية في الأزهر ومع شيخ الإسلام العثماني وفي هذا الوقت فكر الأفغاني بإنشاء تنظيم أو منظمة للإصلاح الديني بعد أن أيقن بفشل أي محاولة إصلاح سياسي قبل الإصلاح الديني لأن التدين التقليدي في الشرق إنما كان بشكله القاصر في القرن التاسع عشر بسبب الجهل و الاستبداد الذي جعل حكم الدولة العثمانية يجرمون استخدام المطابع حتى القرن الثامن عشر و يدعمون أصحاب التكايا و الزوايا و الدراويش من المتصوفة الغلاة كالبشكتاشية .
 

و اتجه الأفغاني بكل شجاعة مهاجما الأزهر (عكس الطهطاوي) وداعيا لإصلاح الخلافة و تحويلها إلى جامعة إسلامية ومطالبا بنهضة حديثة لكن على وفق قواعد الإسلام و لا تشبه النهضة الغربية المادية.
 

وفي حوار هام لجمال الدين الأفغاني مع تلميذه عبدالقادر المغربي يقول الأفغاني ( إننا معشر المسلمين إذا لم نؤسس نهضتنا على ديننا و تمددنا على قواعد ديننا و قرآننا فلا خير فينا ولا يمكن التخلص من وصمة انحطاطنا و تأخرنا إلا عبر هذا الطريق قال عبدالقادر للأستاذه جمال الدين ألا ترى أن حالنا أصبح أفضل في السنين الأخيرة ( يقصد من مجيء محمد علي و اصلاحات حفيده الخديوي اسماعيل) فقال الأفغاني لتلميذه إنما تراه اليوم من حالة حسنة هو عين الانحطاط لأننا في تمدننا هذا معجبون بالأجانب مقلدون لهم مستكينون لهم راضين بسلطتهم علينا وبذلك تتحول صيغة الإسلام من الرفعة والتغلب إلى صيغة خمول ودعة واستئناس لحكم الأجانب.

ويضيف جمال الدين الأفغاني إن سبب النهضة الأوربية هو حركة الإصلاح الديني لأن لوثر عندما شاهد شعوب أوروبا فقدت شهامتها من طول ما خضعت لرجال دين فاسدين و لتقاليد لا علاقة لها بالعقل وعاشت على الأسطورة أقام حركته البروتستانتية ودعا لها الأوربيين بصبر وعناد فأصلح أخلاقهم وقوم اعوجاجهم و طهر قلوبهم.
 

بين الطهطاوي و الأفغاني نشأ الصراع الأكبر في تاريخنا بعد (صراع علي و معاوية) فالعلمانيون المعاصرون (الليبراليون منهم خصوصا ) يقتدون بالطهطاوي ويثقون في إنسانية الغرب وأنهم يقدمون الحضارة لا يريدون جزاءً ولا شكورا والإسلاميون المعاصرون ينظرون بعين الريبة لكل ما يأتي من الغرب وكل أملهم أن تأتي نهضة و تنطلق من داخل الإسلام.
 

هل يمكن الوصول اليوم إلى طريق ثالث بين الأفغاني و الطهطاوي يأخذ بالمنجزات الثقافية و الحضارية الغربية و يحافظ على هوية هذه البلاد من أن تضيع و على استقلالها و سيادتها مع إصلاح ديني نتخلص فيه من منتوجات عصور الظلام الإسلامية ( ما بعد القرن السابع ) و كتب التعصب المذهبي و الديني المذموم أتمنى أن يكون ذلك قريباً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.