شعار قسم مدونات

دولة الرعاية الاجتماعية والباحثون عن الرفاهية

blogs - san
تخيل معي: يجلس شاب عربي في غرفته يشاهد عملا هوليودي الطابع، من تلك الأعمال الطبية التي تعرض لحياة المشفى أو ربما نمط حياة الطبيب Medical Lifestyle على التلفاز؛ ورغم مزيج الانبهار والإثارة الذي يدهشه وحالة التقمص التي تسيطر عليه، فإن عينيه تنتقل رغما عن إرادته عند كل مشهد بطيء إلى حسابه على الفيسبوك عبر هاتفه الذكي أو اللاب توب.

وبينما يتفحص بشغف خصائص الهاتف الجديد الذي أعلنت عنه إحدى الشركات العملاقة لإنتاج الهواتف الذكية للتوّ، أو بعض صيحات البراندات العالمية على صفحة من صفحات الموضة، إذ ينتزعه والده بقسوة من عالمه الافتراضي طالبا منه الذهاب لإحضار "العيش" من المخبز أو لإحضار التموين حيث ينتظره على كل حال طابور طويل.

كانت أزمة دولة الرفاه من قبل مالية، فهي لا تملك المال الكافي للقيام بأعبائها، أما اليوم فأزمتها اجتماعية، حيث لم تعد محل رضا شبابها مهما قدمت.

برهة من تأمل ذلك المشهد في سياق كوكبي كفيلة بإثارة الضحك من سرياليته. فالشاب الذي كان يتقمص منذ قليل دور طبيب عبقري في مشفى مذهل لأي عربي، أو إداري نابغ في مؤسسة عملاقة يوحي معمارها بأنها تنتمي إلى عالم آخر، يقف الآن في طابور من المحليين المعزولين عن سياقه المعولم.

يعبر ذلك المشهد المتخيل عن الأزمة الجديدة لدولة الرفاه Welfare State (أي تلك الدولة التي تتكفل بالرعاية الاجتماعية لمحدودي الدخل) سواء في عالمنا العربي، كما نشهد في مصر السيسي المتعسرة على طول الخط، والتي تحاول الخروج من أزمتها عبر التملص من دورها الاجتماعي، أو على صعيد عالمي كما نرى في أوروبا المتأزمة.

فعلى الرغم من أن دولة الرفاه في أوروبا كانت قد نجحت في المرور ببعض منجزاتها من ثقب ضيق لم تستطع النيوليبرالية الأنجلوأمريكية رتقه، وتحت ضغوط صعوبة سحب الامتيازات الاجتماعية التي أضحت في نظر مواطن تلك البلدان، حقا من حقوق المواطنة التي له (كما شرحها توماس هامفري مارشال في "المواطنة والطبقة الاجتماعية"، 1950)، إلا أنها سريعا ما دخلت مرحلة ثانية من الاضمحلال.

في أمريكا، وإلى حد ما إنجلترا، نجحت إدارتا ريجان وتاتشر في تقويض نموذج "الاتفاق الجديد The New Deal"، وتعرض الدور الاجتماعي للدولة في ذلك البلدين لضربات قوية، بخلاف الدول الأوروبية التي حاول فيها الديمقراطيون المسيحيون ويسار الوسط التماسك إلى حد ما أمام تلك الضربات.

أما في أمريكا اللاتينية، فلم ينجح اليسار في التماسك فحسب، بل نجح في حيازة السلطة في معظم بلدانها مع مطلع الألفية، بعد أن فشلت النيوليبرالية في تحقيق تنمية حقيقية في تلك البلدان، بل أفضت إلى أزمة الأرجنتين العاصفة في العام 2001.

كان من المفترض أن تؤدي الأزمة المالية العالمية في العام 2008 إلى عودة إلى نموذج دولة الرفاه بعد فشل دولة الأمن والحماية (تلعب الدولة في التصور النيوليبرالي دور الشرطي، فهي تؤمن حرية المواطنين، لكنها لا تتدخل في حياتهم الخاصة) في ضبط الاقتصاد وتأمين حياة المواطنين الاجتماعية.

لكن ما حدث كان مفارقة بكل ما تحمله الكلمة من دلالة، فبينما توجهت الولايات المتحدة النيوليبرالية نحو سياسات اجتماعية تحت إدارة أوباما، مرموزا لها بمشروعه الواجهة أوباماكير Obamacare، إذ بالدول الأوروبية التي حافظت على شيء من الرفاه تتجه إلى اتباع النهج الأمريكي القديم في الثمانينات.

بل وصل الأمر إلى خسارة اليسار بعد إنجازه في العقد الأول من الألفية، للدول اللاتينية الواحدة تلو الأخرى، وكان آخرها، أضخمها: البرازيل، بعد عزل رئيستها ديلما روسيف منذ أيام (ناقش الكاتب تلك المشكلة من قبل معنونا إياها بـ "المسألة اللاتينية" على موقع إضاءات).

ما الذي يحدث؟ ولماذا تفشل دولة الرفاه اليوم سياسيا رغم نجاحها الاقتصادي نسبيا كما تساءل بول كروجمان، عالم الاقتصاد الأمريكي، منذ سنوات؟

يعزو كروجمان الفشل السياسي للاقتصاد الاجتماعي إلى هيمنة نخب سياسية منحازة إلى رجال الأعمال الكبار؛ لكن يبدو أن الأمر أعقد من ذلك.

فالمشهد التخيلي السابق بسرياليته التي أشرنا إليها يوضح أن المأزق أعمق من ذلك. ففي عالم تسيطر عليه الحياة الافتراضية التي توفرها التكنولوجيا الحديثة واقتصاد الخدمات في الفيديو جيمز والسينما الهوليودية ومواقع التواصل والبراندات العالمية، يخضع مفهوم "الرفاهية" إلى علمية إعادة تعريف جذرية.

فبينما تبحث الدولة الاجتماعية عن توفير الخبز والسلع الأساسية لمواطنيها، ورواتب معقولة في مؤسسات تقدم خدمات متوسطة؛ يحلم الشاب الذي يتقمص حياة افتراضية بنمط رفاهية مختلف، لا نقول على طراز أثرياء وول ستريت وفحش لاس فيجاس ، وإنما على طراز مشافي سكرابس وجريز أناتومي ودكتور هاوس.

علينا هنا أن نعترف على كل حال أننا في مصر والعالم العربي لسنا حيال دولة رفاه أو دولة أمن وحماية، وإنما حيال حكم طغم لا يمكن أن نطلق عليها دولة.

هناك، حيث المؤسسات المتخيلة في غاية الانضباط والجمال والرقي الإنساني والمهني، والعلاقات المنفتحة، والحياة المستقرة، تقبع أحلام صاحبنا العشريني. وهي أحلام لا توفرها دولة الرفاه الكلاسيكية. كانت أزمة دولة الرفاه من قبل مالية، فهي لا تملك المال الكافي للقيام بأعبائها، أما اليوم فأزمتها اجتماعية، حيث لم تعد محل رضا شبابها مهما قدمت.

كان هذا المفهوم الجديد للرفاهية وراء الطاقة الثورية التي دفعت شباب العالم الثالث إلى التمرد على أنظمتهم القروسطية التي لا توفر لهم تلك المؤسسات المتخيلة. ولعل ما حاوله جمال مبارك في مصر ومشروع جمعية شباب المستقبل كانت محاولة لإقناع هؤلاء الشباب بأن النظام سيوفر لهم ذلك؛ إلا أنهم لم يقتنعوا بوعود النظام المخيبة على كل حال.

علينا هنا أن نعترف على كل حال أننا في مصر والعالم العربي لسنا حيال دولة رفاه أو دولة أمن وحماية، وإنما حيال حكم طغم لا يمكن أن نطلق عليها دولة، حتى وإن انتزع العربي منها امتيازات بمنطق العطايا كما في دولنا النفطية. لكن هذا لا يجعلنا تماما خارج هذا النقاش الكوني، وعلينا أن نتذكر أنه مطروح على الطاولة ومرشح لاحتلال الجدل العام فور إنجاز ديمقراطيتنا المؤجلة.

واقعيا، تأتي وعود النيوليبرالية أكثر زيفا من سواها، لكن لا يمكن مع ذلك أن تبقى دولة الرفاه كما كانت، أو أن تمثل حلا بواقعها المترهل لدول كمصر أو اليونان. لذا يبدو اختلاق نموذج جديد لها هو السبيل إلى الخلاص من حالة الركود التي يعانيها العالم؛ وهو مجال تفكيرنا لاحقا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.