شعار قسم مدونات

مصر الجميلة في أدب الرحلات

blogs - masr
سألني صديق تونسي قبل أيام عن مصر، إن كان ما آل إليه حالها ناتج من عيب تكويني بنيوي، أو هو عارض متعلق باستبداد حكامها في بعض أوقاتها، فهم من يمنعون إبداع أهلها أن يتناسق وتكامل ويظهر، وقد أخرّت جوابه وأحلته إلى لقاء آخر دعوت له أصدقاء من المعنيين بالاجتماع وبتاريخ مصر وحالها وأسرارها، لئلا يغلب على الجواب رأيي وحده، ولأستغل الفرصة وافتح نقاشا أستفيد منه في الموضوع، ولن يكون اللقاء قد عقد حتى موعد نشر هذه التدوينة فلعلي أفرد له تدوينة لاحقة.

وحتى ذلك الحين، رأيت أن أبحث أنا عن صورة مصر عند الرحالة المسلمين، ذلك أن موضع حديثنا هو هذه الفترة، والعلاقة بين مصر والعالم العربي قيادة وريادة، أم ندية أو غير ذلك، وكنت قبل ذلك قد اطلعت على رحلة ابن جبير وقد مر بمصر أكثر من مرة، وكانت رحلته الأولى في زمان صلاح الدين غير أن بيت المقدس كان لم يزل في يد الصليبيين، وطريق الحج مقطوع من بلاد الشام.

في القاهرة.. كانت البيوت من النظافة والبهاء بحيث تقول إنها بنيت من الجواهر لا من الجص والآجر والحجارة وهي بعيدة عن بعضها فلا تنمو أشجار بيت على سور بيت آخر.

فكان المصريون والمغاربة إذا أرادوا الحج سافروا بالمراكب جنوبا إلى قنا، وأقاموا بقوص أياما وكانت من أعمر مدن مصر بالعلماء لوقوعها على طريق الحج، وكانت واسعة، وخاناتها عامرة، وقد عمِلتُ في هذه المدينة أول تكليفي طبيبا، وهي اليوم صغيرة ليس فيها من ذلك التاريخ إلا عبارات تتكرر على جدران البيوت القديمة، إذ يكتبون: "قوص مدينة العلماء" وكنت آنذاك أضحك من العبارة كوني لا أعرف أصلها، وظاهر الحال لا ينبئ وحده عن الخبر. يكمل ابن جبير رحلته، إذ تقلهم قوافل الجمال شرقا إلى البحر الأحمر، ليسافروا بالسفن إلى جدة.

سار ابن جبير على هذا الطريق في حجته الأولى، ووصف من سوء معاملة أهل جدة لهم في التفاوض على أجرة نقلهم وتسكينهم وفي تبدد متاعهم ما يرسم طرفا من أحوال العالم الإسلامي في فترة جاءت إثر سنوات ضعف واحتلال، قبل أن يشتري صلاح الدين الأيوبي بأوقاف وقفها في مصر ذمم الحجاج من أهل الحجاز، وقد ذكر ذلك في رحلته التالية.

ورحلة ثانية طالعتها قديما هي رحلة الرحالة الفارسي ناصر خسرو، الذي زار مصر أيضا في رحلة حجه، وكان ذلك بعد بناء القاهرة بثمانين سنة فقط، فهي من أقرب المدونات زمنيا لقاهرة المعز بعد بنائها، وتلك قيمة فريدة، أن ترى القاهرة وهي لم تزل "بكيسها".

ومعلوم أن أول ما بُني من القاهرة الفاطمية هو الأزهر، وقد سبق البدء في بنائه نزول الفاطميين، بل استخدم البناء حيلة لبث رجال جوهر في مصر، فجاءت الرسل من بلاد المغرب بالأموال، لتبني مسجدا، بلغ عدد العاملين فيه عشرة آلاف من المغاربة، حتى إذا نزل الصقلي القاهرة، هب رجاله العاملون في البناء لنصرته أمام الإخشيديين.

يصف ناصر خسرو أنه رأى سفن المعز التي وصل بها إلى القاهرة، وقد تُركت على شاطئ النيل رغم مرور ثمانين سنة على هذا الوصول.

ثم يقول في صفة المدينة التي بناها جوهر الصقلي:
وفي المدينة بساتين وأشجار بين القصور تسقى من ماء الآبار وفي قصر السلطان بساتين لا نظير لها وقد نصبت السواقي لريها وغرست الأشجار فوق الأسطح فصارت متنزهات.

وحين كنت هناك استأجرت منزلا مساحته عشرون ذراعا ً في اثني عشر ذراعا ً بخمسة عشر دينارًا مغربيا في الشهر كان أربعة طوابق ثلاثة منها مسكونة والرابع خال وقد عرض على صاحبه خمسة دنانير مغربية كأجرة شهرية فرفض معتذرًا بأنه يلزمه إن يقيم به أحيانا ولو انه لم يحضر مرتين في السنة التي أقمتها هناك.

وكانت البيوت من النظافة والبهاء بحيث تقول إنها بنيت من الجواهر لا من الجص والآجر والحجارة وهي بعيدة عن بعضها فلا تنمو أشجار بيت على سور بيت آخر ويستطيع كل مالك أن يجعل ما ينبغي لبيته في كل وقت من هدم أو إصلاح دون أن يضايق جاره.

وعلى ذكر البساتين، أذكر أني قرأت يوما في إحدى مدونات الأوروبيين الذين زاروا مصر أول عهد محمد علي، وقد نسيت أين ومن، عن شغف المصريين بالماء، وحبهم لصوته، وأنسهم بالنوافير، "أي والله قال أنسهم بالنوافير، ولا نعلم لذلك أصلا" وتمتعهم بالشاي وقت العصر أمامها.

وإذا كانت رحلة ناصر الفارسي قد قدمت صورة جميلة لمصر في زمن الفاطميين، فإن رحلة أخرى تعد أولى ما دونه العثمانيون عن مصر العثمانية، وفيها روايات تخالف المألوف من روايات مؤرخي مصر الملوكية، عن سبب وفود العثمانيين إلى مصر وعلاقة المصريين بها، هي رحلة أوليا شلبي، وقد كان معاصرا للسلطان أحمد، ومقربا من الصدر الأعظم.

في رحلة أوليا تفصيل لمساجد مصر وتكاياها وقصورها ونيلها، وقراه المنثورة على جانبيه، وأعداد البيوت فيها، ومقدار خراجها، وراتب متصرفها.

رحلات أوليا دامت نصف قرن من عمره، دون فيها مشاهداته في بلاد العرم والعجم في القارات الثلاث، وتعد من أطول مدونات الرحلات إذ بلغت عشرة مجلدات، اثنان منها لمصر والسودان والحبشة، وهما ختام مدونته.

لم يقتصر أوليا في تدوينه عن مصر على مشاهداته وحدها، بل بدأ بموجز لتاريخ مصر، من عهد آدم، وحالها قبل الطوفان وبعده إلى عهد وصوله إليها.

في رحلة أوليا تفصيل لمساجد مصر وتكاياها وقصورها ونيلها، وقراه المنثورة على جانبيه، وأعداد البيوت فيها، ومقدار خراجها، وراتب متصرفها، وما في مدنها من حمامات، وما لم تبن فيها حمامات فأهلها يسافرون بالقوارب إلى ما جاورهم من بلاد لذلك.

ولأني في المدونات ألقي الطرف ثم لا أفصل، لقصر المساحة فيها، فمن أراد أن يأنس قليلا بصورة العجوز في شبابها، فعليه بما دون عنها في تواريخ سابقة، علّه يفتح أبواب جمال راكمت أمامها السنين الأحجار فحجبتها عن العيان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.