شعار قسم مدونات

من رومانسية الثورات إلى واقعية الحروب

blogs- حلب

هل تحتاج الساحة السورية إلى وصف تفصيلي؟ كلا.. تكفي الإشارة إلى أن إطلاق الرصاص والقصف والقتل لم يتوقف في أرجائها منذ ما يقرب من الست سنين. ومع مواجهة النظام لثورة مسلحة واسعة الانتشار فإنه مازال قادرا على احتلال المناطق والاعتقال.

 

تجاوزت الثورة السورية رومانسية الثورات الملونة المعتادة حيث يسقط الطاغية في مواجهة هدير الحناجر في الميادين واللافتات المرفوعة إلى قسوة واقع الحروب الذي لا يعرف سوى موازين القوة مرجعا لتقدم أو تأخر الأطراف. حتى أقرب الأطراف إلى الشعب السوري وثورته صارت واجهاته الإعلامية تعبر عن الثورة السورية منذ عدة سنوات بتعبير الأزمة.. لأنها أصبحت بالفعل أزمة لا يستطيع أي من الأطراف حلها بانتصار تام.

 

لا تنتصر في صراعاتك مع الآخرين بناءا على عدالة قضيتك وإنما يحدد ذلك ما تملكه من أوراق قوة.

فبالرغم من أن استخدام هذا التعبير قد يراه البعض تخليا عن المبدأ إلا أنه حقيقة نزوع نحو الواقع لا جدال فيه. ماذا يحدث عندما تحدث أزمة بين طرفين متقاتلين لا يستطيع أحدهما الانتصار على الآخر؟ نحاول الوصول إلى حل يرضي طموح كل منهما وعلى كل طرف في هذه الحالة تقديم تنازلات. قد يبدو ما سبق بديهي غني عن الذكر إلا أن قطاعات واسعة من الشباب العربي بحاجة ماسة إلى تجلية هذه الحقيقة أمام ناظريهم وتذكيرهم بالبديهي.

 

ثمة حقائق يعجز العقل الجمعي للشباب العربي الثوري عن استيعابها ويعد هذا من أهم أسباب تعثر الربيع العربي وتقدم الثورات المضادة. من هذه الحقائق أنك لا تنتصر في صراعاتك مع الآخرين بناءا على عدالة قضيتك وإنما يحدد ذلك ما تملكه من أوراق قوة. فإذا كنت لا تمتلك أوراق قوة فلا تملأ الدنيا بكاءا على قضيتك التي تطحن تحت جنازير دبابات الخصم الغاشم.. ما الذي كنت تتوقعه؟

 

حقيقة أخرى.. عندما تجد داعما لك عند خوضك صراعا ما لا تتوقع استمرار هذا الدعم إلى الأبد بدون شرط فلا يوجد لاعب عاقل على ساحتنا الدولية يدعم الطرف الخاسر.. إذن هناك شرط مهم لاستمرار هذا الدعم وهو أن تحقق انتصارات على الأرض. دخلت القضية دائرة مفرغة من التقدم والتأخر المتبادل على الأرض من قبل الطرفين حتى استعاد النظام مدينة حلب ففتح ذلك كما يبدو بابا إلى الدخول في مفاوضات للحل السياسي لم ترفضها حتى جبهة فتح الشام التي توصف بالأكثر راديكالية بين فصائل الثورة السورية. كانت طرقة الواقع على رؤوس الجميع هذه المرة من القوة بحيث لا يمكن أن تبقي غافلا عنه وكان تجلي موازين القوى في وجه الجميع من الوضوح بحيث لا يبقي مجالا للمساومة.

 

يجب أن يعترف الشباب العربي أنه كان ساذجا عندما ظن أن واقعا أفرزه احتلالا أجنبيا زاد عن القرنين في مجمله ستزيله التجمعات الاحتجاجية والشعارات الرومانسية.

في اليمن الشقيق تحولت ثورة الشباب في اليمن كما يحب أهلها تسميتها إلى حرب ضروس مستمرة لا تكاد تستطيع متابعة تفاصيلها اليومية أو تدرك من بحق من له اليد الطولي فيها. غابت عن نشرات الأخبار مشاهد الجموع الهادرة بهتافات الثورة التي تعبر عن مثلها العليا وحضر بدل منها مشهد لدبابة في شارع لا ملامح له يتبعها عدة أفراد تطلق النار على هدف غير مرأي ومشهد رجال على رأس جبل يطلقون النار وأنباء عن اشتباك هنا أو هناك يسقط بضعة قتلى.

هذه المشاهد تعبر بقسوة عن تحول الربيع العربي في اليمن من الهائل المبهر إلى الصغير اليومي النمطي الممل. وفي ليبيا لا يختلف الوضع كثيرا حيث التفاصيل تملأ التقارير الإخبارية ولا تحتاج إلى إعادة سرد ولكنها تجسد كذلك غياب الثورية عن الحالة العربية ودخولها نفق الاشتباكات الأهلية المتواصلة.

أصبحت بحاجة إلى الخريطة والتقارير الجادة الفنية لمتابعة أنباء "الربيع العربي" عوضا عن الشاشة ومنصات التواصل الشبابي أخذت الثورات من ميدان الشباب إلى ميدان أعدائهم.. العسكرة وفي الدول التي لم تحدث عسكرة المواجهة تمت الهزيمة الساحقة للثورات كما حدث في مصر. ما الذي سحب الثورات إلى هذه الطريق المظلمة …؟ طبيعة الأشياء..

 

يجب أن يعترف الشباب العربي أنه كان ساذجا عندما ظن أن واقعا أفرزه احتلالا أجنبيا زاد عن القرنين في مجمله ستزيله التجمعات الاحتجاجية والشعارات الرومانسية. وأنه كان مقصرا للغاية عندما لم يتعرف على طبيعة الدول التي تحكمه وقدراتها وشبكات مصالحها وعلاقاتها قبل أن يشعل ثورة في وجهها. لقد كان من الطبيعي أن تتحول المواجهة مع أنظمة قائمة على الجيوش إلى مواجهات عسكرية إن عاجلا أو آجلا حسب ظروف كل دولة فلماذا يبدو الشباب مصدوما من المصير الذي آلا إليه ربيعه؟

 

يجب على الشباب الثائر أن يواجه حقيقة أن الثورات في كل الأقطار العربية تحولت إلى حروب.. قائمة أو محتملة وعليه أن يقرر إذا ما كان سيخوض هذه الحروب دفاعا عن ربيعه أو يستسلم تجنبا للخراب وسفك الدماء أو يبتكر حلا جديدا يتجنب الحرب وفي نفس الوقت لا يعد تخليا عن الربيع العربي. لقد أصبحت الثورات أعقد بكثير من النزول إلى الشارع ومواجهة الرصاص بصدور عارية.

ولكن رب ضارة نافعة فإن هذا التحول المأساوي في واقعه هو بالفعل مزهر في مستقبله. فالتغيير الذي يتم بصعوبة وينحت في صخر الحياة الصلب بدق يومي سيظل قائما لقرون بإذن الله. كل نفس تصعد إلى بارئها وكل جرح وكل دمعة ترسم لمحة في مستقبل عربي يسوده العدل والحرية. هذه الحروب التي تخوضها الشعوب بضراوة ضد أذرع الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي سيكون انتصارها فيها -إذا تم- مفصليا في التاريخ وسيعيد العرب مرة أخرى إلى الواجهة. وذلك لأن الشعوب تخوض الحرب حاليا دون أي دعم خارجي وفي مواجهة أعداء بالغي الوحشية..

 

الحرب قائمة الآن في الشوارع والمنازل. في قعر الواقع.. وسيقوم عليه بقية البناء. كل الثورات الزائفة التي قامت على صراع بين القوى الخارجية في حقيقتها لم تعرف طريقها إلينا لأن الله عز وجل أراد بنا خيرا.. حيث ندفع ثمن التغيير كاملا ليكون التغيير شاملا. لا ثورات ملونة هنا فلا يعرف شتاؤنا القاسي سوى لون الدم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.