شعار قسم مدونات

لا أشتاق إلى المدرسة

blogs - student
الحقيقة التي حاولت إخفاءها مرات وتزيينها مرات هي أن المدرسة ليست في محل اشتياق عندي. لا أشتاق إليها، ولا أمني النفس برجوعي داخل أسوارها! بداية العام الدراسي كانت إعلاناً سنوياً لحلول موسم الكآبة والضيق، والجملة التي طالما تمنيت تغييرها بكبسة زر في كافة الإعلانات التجارية وغير التجارية: (موسم العودة إلى المدارس). فعندما أفرح للعودة إلى شيء، يجب أن يكون مدعاة بهجة لا حنق وملل.

وذلك الذي قلت لا يعني تراجعاً دراسياً، وإنما يدل على الصراع الذي كنت أعيش. فالعلامات من أعلاها، والتحصيل بشكل عام مرتفع. أما المدارس التي إليها ذهبت، فأحسبها جيدة، ولي فيها ذكريات وقصص. كانت مشكلتي حينها مع النظام التعليمي بشكل عام. العودة إلى المدارس تعني تقييداً لحرية الحركة، وحدوداً مفروضة على الفكر، وبدء موسم البصم لا الفهم، التلقين لا الإبداع، السكوت خوفاً لا الصمت خشوعاً في حضرة العلم. موسم الاعتلال الفكري، والتظاهر بسلامة العقل والجسد في آن واحد. فالحصص في معظمها متكررة ومتشابهة في الطرح، وإن اختلف المحتوى. الكتب المدرسية وحشوها المعتاد، والمختبرات الموجودة في ثنايا الكتب فقط، والحقائب الثقيلة المتخمة بأكوام الورق، كلها ينابيع مشاعر ليست سعيدة. ما زلت أذكر تلك القصة عندما بدأ مدرس العلوم في شرح تجربة علمية عن طريق الكلام فقط، وعندما استفسرت وسألت، كان الجواب: (هي هيك!).

التعليم متعة، وبشكله الحالي هو معاناة، ويكفي أن نستذكر كيف انتهى الحال بعدد لا بأس به من الطلاب بدراسة تخصص بعيد كل البعد عن هواياتهم واهتماماتهم ومراكز تميزهم.

المعضلة أكبر من أصدقاء طفولة ومدرسة تعليم حكومي أو خاص، لأن النهج في صميمه واحد، والاختلافات في القشور الظاهرية والطبقية فيما بينها. ولعل ذاك الصديق فسّر لي ذات مرة كل الضيق المتلازم مع المدرسة. فالأرق مصدره أن المدرسة باتت مصنعاً كبيراً وظيفته خلق آلاف المسامير المتشابهة، حتى تستمر الماكينة الكبيرة في العمل. برنامج الحياة التعليمي مرسوم مسبقا لخدمة هذه الغاية تحديدًا، وليس مطلوب منك سوى أن تكون ذلك المسمار الصالح حسب مفهومه لا أكثر ولا أقل، وقد أصاب صديقي في تفسيره!.

لحظات الفرح في المدرسة كنت أقتنصها عندما يخرج المعلم عن النص، ويدلو بدلوه في أمور خارج إطار الكتاب وبأسلوب جديد ما عهدته. كان يشفي الفضول إلى المعرفة غير المألوفة، بل التفكير. وهذه اللحظات تحديدًا هي التي بقيت ورسخت في الذهن، وغير ذلك شبه مفقود. والدي رحمه الله كان يدرك تلك الحقيقة غير المعلنة صراحة، وكان يحرص على اقتنائي كتباً معينة خلال الإجازة الصيفية. ما زالت كلماته حاضرة في الرأس: (هالكتاب تحفة عالمية، ولازم تقرأه. المدرسة ما بتحكيلك عنه). والكتب هنا لا أعني بها علوم ذرة أو دليل تحضير قنابل نووية. الكتب المقصودة لم تكن سوى روايات أدبية من التراث العالمي.

أتذكر كل ذلك، وأنا أرى نظرات البؤس البادية على الوجوه كل صباح. الأطفال مكتئبون، والآباء يتظاهرون بالفرح، وما عداهم يتزاحمون في شق الطريق. أعترف بأني لم أفهم جل كلام ومقالات الغزل والرومانسية في المدرسة وأيامها. أقرّ بقصوري وعجزي عن إدراك الواقع الماضي الذي إليه يرمون. المدارس نحاول كسوها بما هو مفرح هربًا مما هو قاس مواجهته وبهرجة لما ليس فيها، وستظل ذكرى أليمة وموجعة لا أتمنى عودتي لها يومًا. الأصدقاء والمعلمون ألتقيهم وأقدّرهم خارجاً كما يستحقون وأكثر، أما ذلك النظام التعليمي الشامل، فمفارقته أمنية تحققت. التعليم متعة، وبشكله الحالي هو معاناة. لا نتكلم عن ضحكات طفولة، أو ساعات أنس في جوار أصدقاء، أو مغامرات شقاوة بين جدرانها، بل عن تجربة التعليم بحد ذاتها. ويكفي أن نستذكر على عجالة كيف انتهى الحال بعدد لا بأس به من الطلاب بدراسة تخصص بعيد كل البعد عن هواياتهم واهتماماتهم ومراكز تميزهم.

كون أن تغيير النظام التعليمي المعمول به ليس مرئيًا في المدى المنظور، فهنا يسطع أهمية جانبين اثنين لا غنى عنهما: المعلم والأسرة. أكتب ما كتبت سابقاً، وأنا أعتبر نفسي محظوظًا بثلة من المعلمين الذين خرجوا عن النص وأوقدوا شعلة المعرفة بطريقتهم هم وتفردوا بها. استطاعوا إثارة الفضول تارة، وإفساح الفرصة لاكتشاف الأجوبة بالبحث والتجريب تارة أخرى. خلقوا مساحة لهم في الذاكرة لا يمكن التجاوز عنها أو إهمالها.

أما والداي فلهما الفضل في تمهيد السبل لتحصيل المعرفة، وتشجيعي على القراءة كلما سكنت الهمة وفترت. بعد المرح والفرح، الكتب الجديدة هي مكافأة نهاية العام، ومناقشتها مهمة لا مناص منها. كل ذلك جعلني أشعر بالفرق بين طريقة وأخرى، ورجحت بكفة على حساب أختها، ودفعني أتساءل عن مصيري إن تخلى عني المعلمون الأكفياء والأهل البررة. ربما حينها فقط سأشتاق إلى المدرسة، لأنها ستصبح العالم الصغير رغم اتساعه ولن يصل إلي خبر من نجوا فيما انصرم من الزمان!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.