شعار قسم مدونات

عظَمة التواصل

blogs - social media
درج الناس على النظر إلى التواصل كأحد الأنشطة الحياتية التي تتجلى باحترافية في وسائل الإعلام، أو بصورة طبيعية من خلال العلاقات التي تربط بين الناس. ولكن ماذا لو أمعنّا النظر في الحياة من منظار التواصل؟ وقبل ذلك يستحسن لو عرّفنا التواصل تعريفا موسعا بأنه: انتقال المعرفة (البيانات والمعلومات والأفكار) بين طرفين سواء عبر الأقوال أو الأفعال أو مجرد الوجود، والقدرة المطلقة على التواصل لله الواحد الأحد. سنرى جليا أن التواصل مقترن بالوجود، وأن التواصل هو الحياة. فلا وجود لمن (أو لما) لا يُحَسّ أو يُدرَك، ولا حياة لمن يعجز عن التواصل.

إلى هنا دعونا نبدأ بالتأمل في الغاية من خلق الكون. يقول الله تعالى في محكم تنزيله "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" والعبادة تواصل غايته معرفة الخالق وشكره والاستعانة به والامتثال لأوامره. تتحقق هذه الغاية من خلال عمليات تواصلية كاملة قوامها الرُسُل الذين يحملون رسالات ربهم فيبلِّغونها قولا وفعلا.

تكمن عظمة التواصل في شقه الإنساني، في دوره الرئيس في تسيير الحياة نحو الأفضل أو الأسوأ. أي أن التواصل يضفي على الحياة ديناميكية من خلال تراكم المعرفة.

• تجليات التواصل في الحياة
وإذا تأملنا حياتنا، سنجد أن كل ما يدور فيها هو تواصل أو بسبب التواصل. فحياة الجسم تقوم على العمليات التواصلية التي تحدث داخل الخلية الحية أو فيما بين الخلايا أو بين أعضاء الجسم الواحد أو بينه وبين محيطه الخارجي. وخير مثال للتدليل على اعتماد الأجسام الحية على التواصل، ما يقوم به الدماغ باعتباره جهازا مركزيا لإدارة عمليات التواصل عبر شبكته التي تصل إلى كافة مكونات الجسم، فيتمكن من خلال هذه الإدارة الإبقاء على الجسم حيا والمحافظة على هذه الحياة، وإن عجز عن القيام بهذه المهمة تتوقف الحياة.

وشبيه بهذا يحدث بين الإنسان والآلة، وبين الآلات فيما بينها سواء كانت رقمية أو تناظرية طالما أنها مُعَدَّة للقيام بعمليات. والبرمجيات التي تتحكم في جل العمليات التي تجري داخل الأجهزة الرقمية أو بواسطتها، هي عبارة عن أوامر تواصلية يتم كتابتها بواسطة لغات البرمجة المختلفة.

ولا يمكن الحديث عن العلم والتعليم إلا في وجود التواصل. فكل العلوم لا تتشكل إلا عبر عمليات تواصلية، ولا يمكن تداولها بين المعلمين والمتعلمين إلا عبر العمليات التواصلية التي يطلق عليها اسم: التعليم. فعلى سبيل المثال، إذا أخذنا الرياضيات نجدها لغة لوصف العلاقات وفق أسس منطقية؛ والفلسفة مستوى من مستويات التواصل يحفل بالحكمة والاستشكالات المصاحبة لها؛ والكيمياء وصف للطريقة التي تتواصل بها العناصر وتتفاعل وفقا لخصائصها. أما إذا نظرنا في اللغة – بشقيها اللفظي وغير اللفظي – فسنجدها الأكثر تجسيدا للتواصل من خلال تخصصها في نقل البيانات والمعلومات والأفكار بكيفية مثمرة.

كل الأفعال والأنشطة والعمليات التي تتم ضمن حيزي الزمان والمكان، لا تتم إلا من خلال التواصل سواء كان باستخدام اللغة المنطوقة أو المكتوبة أو غير اللفظية (التي تعتمد على الحركة والسكون والتَمَوقُع والتَمَظهُر وغيره من أشكال التواصل غير اللفظي).

هكذا يمكن النظر إلى الإدارة باعتبارها مجموعة من العمليات التواصلية التي تتم بين مكونات تربطها علاقة تراتبية تتيح إصدار الأوامر من جهة وتنفيذها من جهة أخرى؛ والاقتصاد تواصل، والسياسة تواصل، والحرب سببها سوء التواصل (قديما قيل: الحرب أولها كلام)، والزواج تواصل، والطلاق سببه سوء التواصل.

• عظمة التواصل
تكمن عظمة التواصل في شقه الإنساني، في دوره الرئيس في تسيير الحياة نحو الأفضل أو الأسوأ. أي أن التواصل يضفي على الحياة ديناميكية من خلال تراكم المعرفة وما ينتج عنها من إيجاد حلول للمشكلات والمعضلات القائمة، أو ظهور مشكلات ومعضلات جديدة؛ وهو المحرك الرئيس للتدافع الإيجابي أو السلبي بين الناس.

ومن مظاهر عظمة التواصل، اختلاف المخلوقات وتنوعها وتكاملها. انظر قول الله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"، وتأمل قوله "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ"، تجد أن الهدف من الاختلاف هو تشجيع التواصل والحث عليه. ففي كل عملية تواصلية جديدة زيادة معرفة عن الآخر ودليل جديد على عظمة الخالق.

• حدود التواصل
على الرغم من الحضور الدائم للتواصل في حياة الإنسان، إلا أن حصيلة العمليات التواصلية التي يقوم بها تعتبر محدودة وفقا لخصائصه التواصلية المتمثلة في محدودية الإحساس (عبر الحواس الخمس)، ومحدودية الإدراك، وتقلب المزاج والمشاعر. فضلا عن ديناميكية نمو الإنسان التي تجعله يبدأ بقدرات حسية وإدراكية محدودة تكتمل مع مرور الوقت، ثم تبدأ في التضاؤل مع تقدم السن. ومع ذلك يسعى الإنسان جاهدا لجعل قدراته التواصلية غير محدودة من خلال تطوير تكنولوجيات التواصل باستمرار.

• جماليات التواصل
إن حدود التواصل التي تحدثنا عنها، هي أحد المكونات الجمالية للتواصل. لذا إن المحدودية تجعل الحاجة للتواصل دائمة: فكلما استزدنا منه تَولَّد ما يدعو لطلب المزيد. فقد جعل الخالق الكون في حركة وتغيّر دائمين وهذا يجعل العمليات التواصلية تتسم بالتفرّد والجمال. فالتواصل مع الشمس – على سبيل المثال – يختلف باختلاف ساعات النهار واختلاف الفصول واختلاف الأماكن واختلاف حاجتنا لضوئها: فتارة نتغزل بشروقها وغروبها ونستمتع تارة بدفئها في الشتاء أو الصيف -حسب الأماكن-؛ ونستجير تارة من رمضائها ونمرض من شدتها عندما تكون في كبد السماء.

من بين صعوبات التواصل الإنساني، التناقضات التي تنشأ بين نزعات النفس ومصالح المجتمع في الأمم والشعوب التي فشلت ثقافيا وحضاريا في خلق التوازن.

وتتجلى جماليات التواصل في الفنون التي يتخذها الإنسان وسيلة للتواصل مع الكون معبرا عن ذاته ونظرته لما يدور في هذا الكون، ومعبرا عن قدرته على الإبداع التي وهبها له البديع. إذ لا تخلو لحظات الحياة من تجليات الفنون الأدائية الاحترافية (كالشعر والنثر والدراما والتشكيل والموسيقى والغناء والرقص)؛ والفنون التطبيقية (التصميم الصناعي والتصميم المعرفي)؛ وفنون التواصل الاجتماعي (التقليدي والرقمي)؛ وفنون العيش (المسكن والمأكل والملبس…)

• صعوبات التواصل
اقتضت سنة الله في الكون أن يكون التواصل الإنساني أكبر تحد يواجه الإنسان، يتحدد من خلاله مصيره في الدنيا والآخرة. إذ لا تكفي مصداقية الملقي (الرسول) وجودة رسالته وملاءمة وسيلته في إقناع المتلقي الذي قد يمزج بين محدوديته التواصلية وطبيعته الجدلية وسوء نيته وتعصبه ليفشل العملية التواصلية. وقوم سيدنا نوح عليه السلام خير مثال على صعوبات التواصل الإنساني.

وقد تتمثل صعوبة التواصل في قلة المعلومات أو كثرتها وزيادتها عن قدرة المتواصلين. فإما تسببت القلة في صعوبة الإدراك أو سوئه؛ أو تسببت الكثرة في صعوبة إدارة المعلومات وتوظيفها في اتخاذ القرارات "انفجار المعرفة".

ومن بين صعوبات التواصل الإنساني، التناقضات التي تنشأ بين نزعات النفس ومصالح المجتمع في الأمم والشعوب التي فشلت ثقافيا وحضاريا في خلق التوازن بين النزعات والمصالح، حيث تجد فردا قد يورد شعبا بأكمله مورد الهلاك، أو تجد فسادا في المفاهيم يجعل الباطل حقا والفساد تنمية.

إن صعوبات التواصل مصدر رئيس للمآسي التي تعيشها المجتمعات الإنسانية، والمصدر الرئيس لإضرار الإنسان بالبيئة التي يعيش فيها، لذا لابد من الاهتمام بالكيفية التي تجعل التواصل الإنساني تواصلا فعالا ومثمرا يقود إلى تعزيز إنسانية الإنسان وتغليب جوانب الخير فيه على جوانب الشر والتنازل عن القيام بدور "عدو نفسه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.