شعار قسم مدونات

يخْشون الحسد وينْسون الله الصّمد

blogs - sun
تحتاج بعض الأمور في حياتنا إلى علاجٍ جذري وفوري حتى لا تتفاقم الهواجس الخاطئة وتسيطر على أيامنا كلها وتتغلغل في أذهاننا مخلفّةً في رؤوسنا شوائب ورواسب تبقى عالقةً أبد الدهر في مخيلتنا ترفض المغادرة، فهمنا الخاطئ للتحذيرات الربانية أو أوامره سبحانه يضعنا في دوامة الحيرة والتساؤلات التي لا تنتهي، وعدم تعمقنا في تحليل وتفسير الآيات القرآنية بالشكل الصحيح يوقعنا في فخ التصرفات غير المقبولة والمبالغ فيها أحياناً.

أن يقف الإنسان مكانه دون حراك خوفاً من حدوث أمرٍ ما هي آفة تقتل وتدمّر المرء دون أن يشعر! وهذا ما يحصل تماماً مع الإنسان الذي يعاني من فوبيا الحسد! يخفي كل تحركاته وأفعاله هرباً من عيون الحاسدين ونظرات أعينهم التي لا ترحم، ويربط كل مصيبةٍ تحل عليه بالحسّاد الأشرار، يُسيّر مركب حياته بناءً على من حوله من البشر، ويتخذ قرارات غبية قد تحرمه لذة الاستمتاع بما وهبه الله له خوفاً من خسارة ما يملك بفعلِ العين أو السحر أو الحسد، يرمي فشله أو فشل أحبابه على كاهل الحاسدين، يراهم شمّاعة يعلّق عليهم خساراته ونكباته، ليلعب دور الضحية ويصورهم على أنهم الجلادّون!

من أبشع الأمور التي قد نصادفها ربط كل الأحداث المصيرية في العالم سواء الفردية أو المجتمعية بالحسد والعين والسحر والشعوذة!

لا نستطيع ولا يمكننا بل لا يجوز أن ننكر وجود الحسد والغيرة والكيد واللؤم وغيرها من الطباع البشرية المريضة، وليس بوسعنا جزم عدم ثبوت أضرارها ومساوئها على خلق الله أجمعين لأنَّ الحسد ذُكر في كتاب الله في مواضع كثيرة أذكر منها:
"وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
وقوله تعالى: "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا".

وقصص القرآن التي تحدثت عن مخاطر كيد الإنسان لأخيه المسلم مثل قصة يوسف عليه السلام وإخوته، وقصة قابيل وهابيل حيث قتل الأخ أخاه حسداً وغيرة منه، ونماذج قصصية كثيرة أوردها الله تعالى في كتابه العظيم ليبين لنا خطورة الحسد على النفس البشرية وكيف تدفع هذه الصفة المذمومة صاحبها إلى ارتكاب الحماقات والجرائم استجابةً لوساوس الشيطان وإشباعاً لإلحاح النفس الأمارة بالسوء.

ولكن وعلى صعيد آخر عندما يحذرنا الله من أمرٍ معين يورد لنا الحل والعلاج! فهو الرحيم بعباده الرؤوف بأحوالهم.. "فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"، فإسلامنا يحثنا على ضرورة قراءة الرقية الشرعية على أنفسنا وأطفالنا والمواظبة على قراءة أذكار الصباح والمساء وتلاوة سورة البقرة، فعندما نتحصن بآيات الله لن يمسنا السوء ولا الشر ولا الأذى، فلماذا كل هذا الخوف والاضطراب والهلع والرجفة؟!

إنَّ من أبشع الأمور التي قد نصادفها ربط كل الأحداث المصيرية في العالم سواء الفردية أو المجتمعية بالحسد والعين والسحر والشعوذة! كل فكرة تسيطر على الإنسان ويخشاها ويتشاءم منها سيجني ثمارها المرة بعد حين، الخوف المتواصل من الحاسدين يجعل الكثير من الناس يخشون إظهار نعم الله عليهم! متناسين قوله تعالى "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ"..

والتفسير الحرفي للآية أنَّ الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدث بنعم الله، فيشكر الله قولا كما يشكره عملا، فالتحدث بالنعم كأن يقول المسلم: إننا بخير والحمد لله، وعندنا خير كثير، وعندنا نعم كثيرة، نشكر الله على ذلك، لا يقول: نحن ضعفاء، وليس عندنا شيء.. لا، بل يشكر الله ويتحدث بنعمه، ويقر بالخير الذي منحه الله إياه، لا يتحدث بالتقتير كأن يقول: ليس عندنا مال ولا لباس.. ولا كذا ولا كذا لكن يتحدث بنعم الله، ويشكر ربه عز وجل..

والله سبحانه إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثرها عليه في ملابسه وفي أكله وفي شربه، فلا يكون في مظهر الفقراء، ولكننا مع الأسف نجالس أشخاصاً طوال الوقت يتذمرون من قلة الحيلة وضعف الإمكانيات المادية أو العملية مع أننا نعلم في أعماقنا أنهم يتفوهون بهذا الكلام درءاً للعين والحسد ليس أكثر! فهذه امرأة تخفي خبر حملها خوفاً من عيون الحاسدات مع أنَّ الحمل بالذات إخفاؤه مستحيل فالبطن المنتفخ الكبير مصيره الظهور للعلن! وتلك امرأة تخفي خبر كتب كتابها حتى لا تصيبها عيون رفيقاتها اللواتي لم يخطبن مع أنها في النهاية ستتزوج وتدعوهن للحفلة!..

أكثر الأشياء وجعاً أن يكذب الإنسان على نفسه! ويدعّي أن كل ما يصيبه هو بفعل العين والحسد، ويضيّع عمره بأكمله وهو سجين مخاوفه وظنونه.

وهذا رجلٌ يشكو من المصاريف التي لا تنتهي وأنَّ راتبه ينتهي في منتصف الشهر ليلمحه أحد أصدقائه وهو يستجم في فندقٍ بإطلالةٍ على البحر! وواحدة لا تتزوج فتشيع في الخلق أنَّ عيناً أصابتها وسحر أحدهم فتك بها! وتلك تتطلق فتقول إحداهن صنعت لنا سحر تفريق لتبعدني عن زوجي! وأخرى تبكي على الفيس بوك وترجو النساء أن لا يضعن صور أطفالهن على مواقع التواصل الاجتماعي لأنها وبسبب وضعها صور طفلها الصغير أصابه مرض السرطان، وأمثال هؤلاء الناس لا حصر لهم ولا عد، ولا أنكر أن حالات كثيرة سمعتُ عنها عاشوا المآسي والكوارث بسبب سحر ملعونٍ أو عينٍ شريرة، لكن ما أؤمن به حقاً ما جعل الله من داء إلا وله دواء!

أكثر الأشياء وجعاً أن يكذب الإنسان على نفسه! ويدعّي أن كل ما يصيبه هو بفعل العين والحسد، ويضيّع عمره بأكمله وهو سجين مخاوفه وظنونه، يخسر راحة باله وفكره وعقله، الحياة أقصر من أن نقضيها ونحن نخشى من حولنا ونرتعب منهم، الأخذ بالأسباب من قراءة دائمة للقرآن والإكثار من الدعاء بصرف العين والشر والبلاء والصدقات التي تدفع الأذى كلها سلوكيات عظيمة تخفف من قلق الإنسان تجاه الآخرين، وتجعله سعيداً متوكلاً على الله تعالى يستشعر حفظه ورعايته له في خطوات حياته، فمن كان الله معه لن يحزن ولن يصيبه الهم والغم ولن تتمكن منه عيون الحساد ولا سحر الأوغاد، فقد قال ابن المعتز:
اصبرْ على حَسدِ الحَسُودِ….. فإنَّ صَبْرَكَ قاتِلُهُ
فالنّارُ تَأكلُ بَعضَها ……إنْ لم تَجِدْ مَا تَأْكُلُه..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.