شعار قسم مدونات

ثقافة الجاهز

blogs - رجل جالس
نحنُ لا نملك النفس الطويل لنقر، روحنا صغيرة أمام الكتب بأوراقها الكثيرة، نُحبُ خلاصة الأشياء أن تكون أمامنا جاهزة، دون أن نكلفَ أنفسنا عناء البحثِ عنها للوصول إليها، ثقافة(الجاهز) تفشتْ في أوساطنا بشكلٍ مذهل، لدرجةِ أننا إن وجدنا من يضع اللقمة في أفواهنا دون أن تمتدَ إليها أيادينا سنفعل!

غريبٌ أمرنا؛ نستجدي النجاح، ونعشقُ حياة الناجحين، ولا نسعى لأن نكون بين صفوفهم، وضمن قوائمهم؛ يُشارُ إلينا بالبنان، وفي المقابل عدونا اللدود من يتعبُ على نفسه، ويبذل قصارى جهده؛ ليتبوأ مقعدًا متميزًا، فالتميزُ جريمةٌ يُعاقبُ عليها قانون الكسالى وواقع الخاملين الذين ارتضوا منازلَ سُفلى ليس فقط في أعمالهم بل في أبسط أنماط حياتهم الأسرية!
 

ننظرُ بشيءٍ من الحسرةِ إلى أغنياء أقوامنا؛ كيفَ جمعوا كل تلك الثروة، وننسى أنهم ضحوا بصحتهم ووقتهم وراحتهم؛ لأجلِ أن يكونوا أثرياء؛ لم يُولدوا وملاعق الذهب في أفواههم، لكننا نحنُ على موعدٍ مع التأخير حتى في استيقاظنا ونومنا، نقضي أيامنا في أشياء لا تبدو إيجابية على الإطلاق، أشياء لا يستندُ عليها الحالمون بغدٍ أفضل، بل المستسلمون لواقعهم المرير، المتواكلون على الله؛ بأن يُغيرَ أقدارهم إلى الأفضل؛ ليكتشفوا بأنها تتغير إلى الأسوأ؛ لأنهم ما خططوا، وما ثابروا، وما جلسوا مع أنفسهم جلسةَ استخلاصٍ للعبر، بهدفِ نبذ عيوب الأمس، وتحديد أهداف اليوم؛ لجني ثمارها في الغد!

كثيرون يقولون لا نجدُ أعمالاً ولا وظائف نتقلدها، فشلوا في تسويقِ أنفسهم لأسواق العمل المفتوحة في وجوهِ الشخصيات الواثقة من نفسها، تلك الشخصيات التي تمتلك كاريزما، تحفزُ أرباب العمل؛لاستيعابهم ضمن شركاتهم ومؤسساتهم؛ فوجودهم كنزٌ ثمين؛ فهل انتبه العاطلون عن العمل ماذا ينقصهم من قدراتٍ تحولُ دون استيعابهم؟

لا أحدَ يُولدُ"جاهزًا، صحيحٌ أن بعضنا يُولد بقدرات أو مواهب فطرية، ولكنها إنْ لم تُصقل تذوب؛ فلنحارب سموم أنفسنا الرافضة لأن تتعب؛ فالتعبُ من أجل الحصول على الشيء، متعة لن يتذوقها إلا من تعب.

ذات مرةٍ قال لي شخصٌ له وزنه العريق في الإعلام "صوتُك لا يصلح للشاشة" ورغم الامتعاض الذي سادني لأسلوبه الفج في نقدِ خامة صوتي؛ إلا أنني أخذتُ نصيحته بعين الإعتبار، وبذلتُ جهدًا كبيرًا مع صوتي، فالأداء الخطابي الذي اعتدتُ عليه خلال سنوات تقديمي للمهرجانات واللقاءات المفتوحة له نبرة صوتٍ تختلف عن نبرة المراسل أو المقدم التلفزيوني، وبعد صراعاتٍ مريرةٍ مع خامة الصوت المطلوبة للتلفزيون وبين أدائي السائد في ذلك الوقت، تمكنتُ من التغلب على الإشكالية، ما أودُ قوله هو أن الإنسان الإيجابي لا يأخذ نقد الآخرين له على أنه ذم أو كسر للمجاديف، بقدر ما هو تحفيز ليكون الأفضل، الأفضل الذي يتأهل للمنافسة ليس على صعيد أقرانه المحليين بل زملائه الدوليين أيضًا..

لنصغِ جيدًا إلى منتقدينا، لنعطيهم أذننا بل الإثنتين، وندرب أنفسنا على أن نكون من أصحاب الروح الرياضية، التي تسعى للتطوير والانطلاق إلى آفاقٍ واسعة؛ فإن لم نكن كذلك لن نتقدم، وسنبقى في مربعٍ ضيقٍ ووضيع، حالنا اليوم هو حالنا بعد ألف يوم؛ فلا يتطور إلى من يُقيم أداءه باستمرار، ويسمحُ بإعلاء صوتِ منتقديه، من بابِ التعلم الذي يفسحُ المجال له لأن يُقدم أعمالاً مذهلة مع مرور الوقت!

ذلك يجعلني أعرجُ على أهميةِ مراقبةِ الأداء بالمتابعة الدورية، التي ترفعُ رؤوس المثابرين إلى الأعلى، وتهدمُ الفجوةَ بين المستحيل والممكن، فكلُ شيءٍ مع الممارسة يُصبح ممكن، شريطة آلا يترك الإنسان نفسه أسيرًا للعشوائية، بل يخطو خطواتٍ مدروسة، يُبنى عليها، وتكونُ سندًا له في طريقه الطويل نحوَ النجومية، وكلُ إنسانٍ بإمكانه أن يُصبح نجما، حتى عامل النظافة إن أتقنَ عمله، واستبسل في مهنته، سيذيع صيته ويلمع بين أقرانه ومنطقته، ورويدًا رويدًا سيتطور، إلى أن يُصبح اسمه على سيرةِ كل لسان؛ فالنجومية هي أن نعتني بنظافةِ أرواحنا في زمنِ التلوث، وبعدها سيجتمعُ حولنا كثيرون حبًا وإعجابًا؛ فجاذبية النقاء الداخلي التي تطغى على أجسام أصحابها؛ لتعطيهم رونقًا خاصًا؛ يستشعره كل من يُقابلهم!

لا أحدَ يُولدُ"جاهزًا" كلنا نُولد صفحةً بيضاء، صحيحٌ أن بعضنا يُولد"بقدرات أو مواهب" فطرية، ولكنها إنْ لم تُصقل بالممارسة تذوب؛ فلنحارب سموم أنفسنا الرافضة لأن تتعب؛ فالتعبُ من أجل الحصول على الشيء، متعة لن يتذوقها إلا من تعب وكدَ وعرفَ ثمنَ الوصول، ورضيّ بأن يدفعه كاملاً بل وزيادة بها الكثير من السخاء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.