شعار قسم مدونات

في اليمن الموت للجميع والحياة لمن أراد

blogs - اليمن
مطلع كل صباح يتوجه آلاف اليمنيين إلى جبهات القتال، ليضرب بعضهم رقاب بعض، كل في سبيل إعلاء الراية التي قدم تحت لوائها، ووهب روحه لإرساء قواعدها القائمة على أصولية محضة. لقد ترسخ مفهوم النزاع في العقل الجمعي للقوى الدينية، والسياسية في اليمن، وبإسناد قبلي باذخ في الإفتتان بالصراع الديناميكي القائم منذ القدم، ولذات الأسباب التقليدية (السلطة_النفوذ_المال)، يضاف إليها عنصر الطائفية، الذي فاح في الأرجاء، عقب سقوط الدولة اليمنية آواخر 2014.

مقاتلون جدد ينخرطون في معسكري النزاع يومياً، بعد إخضاعهم لدورات تدريبية مكثفة، تذكي فيهم روح الكراهية للطرف الآخر، وتخوينه، وإيهامهم بأنهم الحق، وما سواهم هو الباطل بعينه، لتستمر المعارك باستمرار التحشيد المؤدلج، وفقاً لأسسه الضيقة.

أغلب مقاتلي المعسكرين ينتمون للطبقة الكادحة، ممن لا يحظون بنفوذ سلطوي، ولا إسناد مشيخي، ولم يتحصلوا على قسط من التعليم، الأمر الذي سهل عملية استقطابهم، وتحشيدهم فكرياً، وثقافياً تحت رايات التنظيمات المتقاتلة، وما أسهل تحشيد الأميين، والجهلة لصالح الفصائل الميليشاوية في العالم بأسره، لا اليمن فحسب، بدء بحركة أبو سياف المسلحة في الفلبين، وجماعة بوكو حرام في نيجيريا، مروراً بتنظيم داعش في العراق، وسوريا، وانتهاءً بجماعة الحوثي في اليمن الجريح، والجريح جداً.

في الواقع أن أرباب النزاع في اليمن، لا يجبرون أحداً على الالتحاق بجبهات القتال كما هو ملموس طوال المرحلة المنقضية من عمر الحرب في اليمن، أو بالأصح لم يصلوا بعد لتلك المرحلة _نتمنى ألا يصلوا إليها مطلقاً_، فهم فقط يكتفون بضم من يعجب بأفكارهم، أو يتبناها لسبب بعينه، ومن ثم يشحذون هممه، ويستفزون حميته لتوجيهه طواعية لميادين القتال، أو كما يسمونها (ميادين الشرف، والبطولة )!

لم أتدحرج إلى حفر النزاع الطاغية على الأرض، والجغرافيا، بل مكثت متمترساً بين كتب التاريخ، والأدب العالمي، ليقيني بأن الإعراض عن دعاة الموت هو أعلى مراتب الجهاد ضد القبح، ووسائله، ودعاته.

أما سدنة الحرب، ومسعريها، فإلى جانب استئثارهم بسبل العيش الفارهة، يكتفون بلعب دور الزعامة، واستعارة الصيغ الوطنية البهرجية لتضمينها في خطبهم العصماء، لا لشيء سواء استعطاف مزيد من القطعان، وجرهم إلى أتون المعارك العبثية بامتياز.

لم يعد سهلاً تكريس ثقافة التعايش، وتقدير نعمة الحياة في ذهن الكائن الميليشاوي في بلادي، فقد نبش تجار الحروب موروثات جاهلية مرت عليها آلاف السنين، التعصب، والثارات، والتمييز وفقاً للسلالة، والمذهب، وغيرها من الرزايا البائدة، وتم تصديرها في مضامين دينية مزورة، تترسب في ذهن الكتل الدهماوية بسهولة فائقة، كالحق الإلهي في الحكم، ونصرة آل البيت، ومحاربة الظلم، وهي كلها وسائل تؤجج الخلافات، وتذكي نيران الفتنة بين مكونات الوطن الواحد.

هكذا تسير قافلة اليمنيين تجاه الموت زرافات، ووحدانا، سواء برغبتهم، أو بسذاجتهم، أو بعواطفهم التي تجرهم للمهالك، وما أسهل دغدغة عواطف اليمني، فهو الوحيد من يمنحك روحه، وماله في حال تمكنت من العزف على وتر عواطفه اللينة.

هكذا قدر لسفينتنا نحن اليمنيين أن تسير نحو الهلاك بخطى حثيثة، ترعاها العصبية، وتغذيها المضامين الدينية المتطرفة، وتحرسها زبانية الساسة على المستويين المحلي، والدولي، وفي ظل تغييب متعمد لصوت العقل، والحكمة!!

شخصياً كشاب يمني مستاء من ضجيج الحرب المحدقة بي.. تخطفني اليأس من إصلاح ما أفسدته السياسة، والطائفية، لدرجة أن طفت، وطغت العزلة النفسية على مساحة شاسعة من مشاعري، ويومياتي، وكتاباتي، فانداحت الكآبة كفيضان جرف قلمي، وأوراقي التي تنضح بالأسى من فرط مصابنا الجلل في وطننا المغدور، لكني رغم ذاك _كالكثير من أبناء جلدتي، مازلت مؤمناً بأني مشروع حياة، وُجِدتُ لخلافة الله في الأرض، فلم أتدحرج إلى حفر النزاع الطاغية على الأرض، والجغرافيا، بل مكثت متمترساً بين كتب التاريخ، والأدب العالمي، ليقيني بأن الإعراض عن دعاة الموت هو أعلى مراتب الجهاد ضد القبح، ووسائله، ودعاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.