شعار قسم مدونات

عُشَّاقُ الظُّلْمْ

blogs- الظلم

أذْكُرُ جيدا في صغري أني كنتُ في عرسِ ابنِ عمٍّ لي، وقد كانوا يهمون بذبح الخراف لكن لضيق الوقت قاموا بذبح الأول أمام الباقين فانتفضت بقية الخراف وهربت في ذعرِ لم يسبق لي رؤيتهُ في عينِ بهيمةٍ قط !، أذكر أيضا أنهم لم يتمكنوا من استرجاعها حتى حلَّ الظلام، أتذكر يومها أيضا كم تساءلت وأنا ابن التسع سنين كيف لهذه البهائم أن تفهم الذي حدث !، اكتشفت يومها أنها تشاركنا أيضا مشاعر الخوف من الموت والألم!
 

نحن في عصر عرفت فيه من يفرح بحرق أخيه لأنه فقط وقف في اعتصامٍ أو رفض انقلابا أو ظلما أو نهبا.. فرح ولم يعلم أن الدور لم يكن ببعيد عنه!

لكن وبعد أن كبرت أظنني بدأت أغير رأيي، فقد رأيت العربي يُذْبَح لِيَمُرَّ أخاهُ العربي فوق جثته بعينين متسعتين من الذهول يمضي ليضع عنقه على حافة السكين أيضا وهو يردد شعارات واهية أتذكر منها: نحن أحسن حالا من إخواننا الفلسطينيين، ثم نحن أحسن حالا من إخواننا العراقيين، ثم السوريين، ثم الليبيين.. ولازالت السكين تشحذ ولازال العربي يلقي نفسه بين حدها المسنون وركبة الجلاد الذي مازال في مكانه لا يغيره فتدافع العرب على حتوفهم يسهل مهمته.
 

غيرت رأيي في عصر الأدمغة المغسولة، في عصر تحول التلفاز ومواقع الأنترنت من أمور مسلية إلى مصادر لتغييب العقول وتجييش الأحقاد!، في عصر عرفت فيه من يفرح بحرق أخيه لأنه فقط وقف في اعتصامٍ أو رفض انقلابا أو ظلما أو نهبا.. فرح ولم يعلم أن الدور لم يكن ببعيد عنه! فرح ولم يعلم أنه أُكِلَ يوم أكل الثور الأبيض، وأنه ذُبِحَ يوم أسعدهُ التنكيل بأخيه الذي ما اعتصم إلا دفاعا عن حقه وحق أبنائه!
 

ذُبِحَ يوم رأى جثة أخيه فوضع تعليقا أسفلها أن هذا جزاء من يعبث باستقرار أوطاننا ومضى دون أن يتساءل طرفة عين ما الذي يستفيده شابٌ من خيرة القوم تعليما وخلقا بالعبثْ! لم يتساءل طرفة عين أين كان العبث وكيف ولأي غرض؟ في أمةٍ تتساءل عن كلِّ شيء حتى عن أرقام أحذية اللاعبين لكن لا تتساءل عن مصادر الأخبار ولا مصداقيتها!، وعندما يرى هذا الحقود الحقيقة ناصعة مرصعة بالبراهين يقول أن فصولها مركبة وأن المشاهدة معادٌ تمثيلها، فإذا رآها شاخصة نهارا أمام عينيه يسفح آخر آمالنا فيه بقوله: "المهم استقرار البلد"، وقد يعدد إنجازات وهمية لحاكمه المفدى، التي وإن كان بعضها حقيقيا فإنه لم يكن من جيب أبيه ولا من ميراث أمه، إنجازات ولو كانت كلها حقيقة فلا تعدوا أن تكون قطرة من فيض تقدُّمِ العالم الزاحف نحو الازدهار بخطى عملاقة.
 

في وقتٍ لا زلنا نحن فيه نمجد الحاكم لأنه عبد طريقا أو أغلق حفرةً أو فتح تفريعة لنهر أو تصدَّقَ علينا ببعضٍ من خيراتنَا!، وها نحن اليوم ننعم بالاستقرار والدعة بسبب قهر الشباب وسجن العقول وقتل المعتصمين وتخويف المتعاطفين.. ها نحن نرى اليوم الاستقرار عيانا لكنه بلونٍ أحمر على ثرى بلدانٍ كسوريا والعراق وليبيا وبلون قاتم معتمٍ في زنزانات بلدانٍ أخرى كمصر!، من يقنع العقول المتحجرة أن النار لن تأتي بالسلام!، وأن السجون الممتلئة لن تحقق الازدهار، وأن قتل الشباب لن يطيل أعمار الشيوخ الجاثمين على صدورنا ولن يجعلهم مبدعين في آخر أعمارهم.
 

ضاعت الوطنية لما أصبحت الأنانية عندنا تظهر للعلنْ في تصريحات زعمائنا وإعلاميينا. يوم أصبح عنوان حياتنا الحزينة: الجوع والتخلف ولا حياة كحياة السوريين أو العراقيين!

من يقنعهم أن الغبي وإن علَّقَ الأوسمة لن ينفع الأمة، وأن الذكي المبدع ليس خطرا على الأمة ولو اتسخ ثوبه ووهن جسده من برد السجون وحرِّ السياط، من يقنعهم أن المطالبة بالحق والعدل حضارة وليست تخريبا ولا عبثا، من يقنعهم أن المناصب العليا ليست إلا أدواتٍ لخدمة الشعب، وليست مستقراً، ولا أماكن مقدسة، ولا يتحول الجالسون عليها لآلهة ولا أنصاف آلهة، من يقنعهم بدورة الحياة الطبيعية وأن الشباب ينتظرون أدوارهم لتحقيق أحلامهم لا لدخول السجون ولا القبور!، من يقنعهم أننا لا نريد أن نكون أحقر الأمم، نحن لا نريد العبث ولن ينفعنا بشيء لكننا أيضا لن نرضى أن نكون في قاعٍ سحيق تنظر إليه باقي الأمم باستخفاف أو شفقة.
 

نحن نريد أن نستعيد أوطاننا لنستعيد الوطنية التي ضاعت منا بعد أن أصبحت تجارة الفسدة الرائجة، ضاعت منا يوم أن أصبح حب الوطن مرتبطا بحدودٍ لا ندري إلى الآن على أي أساسٍ وُضِعَتْ، ضاعت منا يوم أصبح حب الوطن مرتبط بتشجيع فريق أو التصويت لفنان لنزداد نحن فقرا ويزداد هؤلاء ثراءً، ضاعت الوطنية يوم فرقتنا الكرة وجمعتنا المذابح، ضاعت الوطنية بعد أن أصبح الزعماء يخوفون العامة فالصمت أو فوضى كفوضى الجيران وكأن الجيران من كوكب آخر، ضاعت الوطنية لما أصبحت الأنانية عندنا تظهر للعلنْ في تصريحات زعمائنا وإعلاميينا.
 

يوم أصبح عنوان حياتنا الحزينة: الجوع والتخلف ولا حياة كحياة السوريين أو العراقيين!، يوم أغلقنا بيوتنا ونعمنا بأمن مزيف ولم نفعل شيئا لإيقاف المحرقة التي تشق طريقها نحونا في ثبات!، ولنتمتع أيضا بهدوء ما قبل العاصفة، العاصفة التي ستقتلعنا من جذورنا لو أمعنا في الانقياد الأعمى وتقبيل اليد التي تسرقنا وتخوين وتجريم كل من يطالب بحقه ولا يقبل الظلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.