شعار قسم مدونات

هكذا تصنعون طواغيتكم

blogs - علي عزت بيجوفيتش
قال عنه وود وورث كارلسن "إن تحليله للأوضاع الإنسانية مذهل، وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعوراً متعاظماً بجمال الإسلام وعالميته".. فلم يكن رئيساً عادياً كسائر رؤساء الجمهوريات الذين تقلدوا هذا المنصب في العالم الإسلامي، بل كان: سياسياً داهية، ومناضلاً عنيداً، ومفكراً عميقاً، وستبقى حياته وأعماله وسيرته خالدة في صفحات التاريخ.

وصل ذات مرة إلى صلاة الجمعة متأخراً وكان قد اعتاد الصلاة في الصفوف الأمامية، ففتح له الناس الطريق إلى أن وصل إلى الصف الأول فاستدار للمصلين وبغضبٍ قال لهم مقولته الشهيرة "هكذا تصنعون طواغيتكم".. ولد "بيجوفيتش" في الفترة بين الحربين العالميّتين مدينة بوساناكروبا شمال غربي البوسنة وتحديدا عام 1925، في أسرة عريقة بإسلامها، والمعروف أن الإسلام دخل إلى منطقة البلقان على يد العثمانيين بعد معركة "كوسوفا" الشهيرة سنة 1389، بعدما انتصروا على الصرب. 

لم يكن "بيجوفيتش" رئيسا فحسب بل كان مفكرا عميقا، يغوص في الأعماق، ويأبى أن يعوم فوق السطح، ومثقفا أخذ نفسه وأحاطها بألوان الثقافة العصرية.

تعلّم "بيجوفيتش" في مدارس مدينة سراييفو التي أمضى حياته فيها، وفيها أكمل تعليمه الثانوي عام 1943، والتحق بجامعتها، وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1950، ثم نال شهادة الدكتوراة عام 1962، وشهادة عليا في الاقتصاد عام 1964، لقد كان "بيجوفيتش" يقرأ ويتحدث ويكتب بعدة لغات أجنبية وهي: الألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، مع إلمامه الجيد بالعربية.

اصطدم "بيجوفيتش" في وقت مبكر من حياته (16 عاماً) مع السلطة نتيجة اهتماماته الفكرية الإسلامية المغايرة للمواقف الشيوعية، فقد كان من المشاركين في تأسيس جمعية "الشبان المسلمين"، وهي جماعة دينية وسياسية أُسِّست في سراييفو، وفي عام 1946 قامت الحكومة الشيوعية في البلاد باعتقاله هو وصديقه نجيب شاكر بيه بسبب مساعدتهما على إصدار جريدة "المجاهد"، وبعد خروجهما من المعتقل شَنَّ الشيوعيون حملة أخرى من حملاتهم الضارية ضد جمعية "الشبان المسلمين"، ففي عام 1949، قدموا أربعة من أعضائها إلى المحاكمة التي قضت في النهاية بإعدامهم، فضلاً عن اعتقال عدد أكبر منهم بسبب نشاطهم الإسلامي الملحوظ.

وفي أبريل عام1941 اجتاح هتلر بجيشه النازي يوغسلافيا واحتلها فسارع بعض أبناء البلقان المتأثرين بالفكر النازي إلى تأسيس حزب (الأشتاشا) النازي، وحاول الشبان النازيون التأثير في الطلاب المسلمين، فتصدّى لهم الطالب "بيجوفيتش" وزملاؤه في جمعية الشبان المسلمين وأفهموا الطلاب المسلمين أن الفكر النازي معادٍ للإسلام، وأن الحركة النازية ضدّ المسلمين، ويحرم على المسلم أن ينتسب إلى الحركة النازية تحت أي ذريعة.

استطاع علي عزت وزملاؤه في الجمعية التأثير في الطلبة، فاستاء النازيون الألمان من الجمعية، فشرعوا فى محاربتها ، فلم يسمحوا لها بالترخيص والعمل الحر، وعندما تحررت يوغسلافيا، ورحلت عنها الجيوش الألمانية، اتخذت الشيوعية مذهباً وديناً أواخر عام 1945 فاعتقله الشيوعيون مراراً، وهو طالب في الجامعة ولم يفتر هذا من عزيمة الشاب، بل زاده صلابة وتصميماً على الكفاح، والعمل بأساليب شتى، فاعتقله الشيوعيون أكثر من مرة فما يزيده الاعتقال والتعذيب إلا إيماناً بصحة الطريق الذي يسير فيه، وتمسكاً به.

فقد كان الشيوعيون أقسى على المسلمين من النازيين والملكيين، فقد أغلقوا المساجد، ومدارس المسلمين وحوّلوها إلى ملاهٍ ومتاحف وبارات وحانات ومراقص، ومنعوا اقتناء المصاحف، وفعلوا الأفاعيل بعلماء المسلمين وبالمتدينين، قتلاً، وسجناً، وتعذيباً، ومطاردة، وفي عام 1983 اعتقل "بيجوفيتش" مرة أخرى عندما ألَّف كتابه "البيان الإسلامي" الذي قُدِّم بسببه إلى المحاكمة في سراييفو عام 1983، مع 12 مثقفاً بتهمة "الأصولية"، وحكم عليه بالسجن لمدة 14 سنة، ثم أطلق سراحه في نهاية عام 1988، بعد تصدّع الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي في عام 1990، وعدم قدرة تلك الأنظمة المنخورة الفاسدة على كبح جماح الشعوب التي بدأ تململها يظهر على السطح.

وبعد عشرات السنين من القمع والاستبداد اضطر الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى السماح بالتعددية السياسية، فاغتنم الدكتور علي عزت بيغوفيتش هذه الفرصة وبادر إلى تأسيس حزب العمل القومي الذي أصبح من أكبر الأحزاب في البوسنة، وأصبح رئيساً له في مايو من العام نفسه، ثم رئيساً للدولة الأوروبية البوسنة والهرسك حتى عام 2000.
 

وأجرى استفتاء شعبياً على الاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي، كما استقلت كرواتيا وسلوفينيا، وصوّت الشعب المسلم على الاستقلال بأكثرية، لكن الغرب لم يرضَ بهذه النتيجة، فشنّ حملة إعلامية ظالمة ضد مسلمي البوسنة، الأمر الذي جعل الصرب ينقضّون على البوسنة في حرب عرقية دينية دموية، وحرب إبادة شاملة، وتطوع آلاف من نصارى أوروبا للقتال في صفوف الصرب، ووقعت الدولة البوسنية الوليدة بين فكي كماشة، فالصرب من جهة، والكروات من جهة أخرى، فاستطاعوا تمزيقها، وكادوا يجهزون على شعبها الأعزل الآمن، جرى هذا على مرأى ومسمع من العالم! ودون إظهار أي رد فعل ضدَّ هذه المجازر بحق هؤلاء المسلمين، تاركين الصرب والكروات وعصابات (الشِّتْنك) الصربية الإرهابية ومن انضمّ إليها من نصارى أوروبا، يفتكون بالمسلمين، ويرتكبون المجازر الجماعية التي لم تُكتشف بعد كل مقابرها الجماعية.

لم يتمكن مسلمو البوسنة من إعلان الحداد الرسمي عليه، فقد اعترض على ذلك ممثل الصرب في الرئاسة الجماعية لأن الصرب يعدّون الرئيس علي عزت عدوّهم اللدود.
فلقد راح ما يقارب ثلاث مئة وخمسين ألف نفس، وتم انتهاك حوالي مائة ألف عرض امرأة وفتاة مسلمة، كان على شعب البوسنة والهرسك أن يختار بين الانضمام إلى الكروات أو الصرب، الخصمين اللدودين اللذين لا يجتمعان إلا على حرب المسلمين، والرئيس علي عزت كان يسعى ويفكر في الطريقة التي تجنّب شعبه ما يمكن من الخسائر، فكان يتحرك هنا وهناك، ويعرض مقترحاته وأفكاره، ويضطر إلى التراجع أمام التواطؤ الغربي الذي لم يتحرك إلا عندما رأى الصمود الأسطوري لذلك الشعب المسلم الذي بدت كفّته القتالية ترجح على الصرب.

لم يكن "بيجوفيتش" رئيسا فحسب بل كان مفكرا عميقا، يغوص في الأعماق، ويأبى أن يعوم فوق السطح، ومثقفا أخذ نفسه وأحاطها بألوان الثقافة العصرية، كما ثقف العلوم الشرعية، وقرأ الكتب الفكرية الإسلامية المعاصرة، وجمع بين أصناف تلك العلوم التي حصلها من مصادرها الأمينة الموثوقة، غربية وإسلامية، فكان لنا منه مفكر عميق، ودارس واع للتيارات الفكرية المعاصرة، وثقفٌ لقفٌ قرأ فوعى، وكتب فأوعى، ولكنه لم يتفرغ للكتابة، لأن هموم الأمة الإسلامية عامة، وهموم مسلمي البلقان خاصة، والمحن والابتلاءات التي مرّوا بها، والمآسي والكوارث التي نزلت بهم.

سدّ الرجل ثغرات في المسيرة السياسية والكفاحية لمسلمي البوسنة والهرسك، ومع ذلك، ألّف الرجل عدّة كتب، وكتب العديد من الأبحاث، وقدّم الكثير من المحاضرات، في ميادين فكرية وسياسية ودعوية.
 

اعتزل "بيجوفيتش" النشاط السياسي نظرا للضغوط الدولية التي تعرّض لها بسبب مواقفه الدينية المحافظة واعتباره أحد زعماء الحرب في البوسنة والهرسك. وقد ظلّ وفيّا لفكرة الوحدة الوطنية ومؤمنا بها، يقول: "معركة توحيد البوسنة وترسيخ الديمقراطية تتقدم خطوة خطوة وسوف تنتصر البوسنة".

توفّي بيجوفيتش يوم الأحد 19 أكتوبر 2003، بعد فترة قصيرة من اعتزاله عن عمر ناهز 78 عاماً، ولم يتمكن مسلمو البوسنة من إعلان الحداد الرسمي عليه، فقد اعترض على ذلك ممثل الصرب في الرئاسة الجماعية لأن الصرب يعدّون الرئيس علي عزت عدوّهم اللدود الذي وقف في وجه أطماعهم في ابتلاع البوسنة والهرسك من أجل إقامة إمبراطورية صربية طالما حلموا بها. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.