شعار قسم مدونات

مَهزلة العقل العربي

Blogs - Mannequin
لم تتمكن كل وسائل التواصل الحديثة والتكنولوجيا غير المحدودة التي ربطت الشمال بالجنوب والشرق بالغرب من تفكيك العقل العربي وتغيير منهج تفكيره.. بل زادته كل تلك المنظومة الجديدة من الوصلات المعرفية إصراراً على بناء جداره المتوحد مع ذاته. 
 

وقد تأكدت من ذلك بعد مراقبة لمجموعة من الأحداث أظهرت ردود فعل عربية لا يمكن تفسيرها إلا من خلال "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَ إلى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ …" المائدة (104).

فالعقل العربي الحديث يرتبط ببيئته ومكوناتها من دين ولغة وتقاليد اجتماعية ونشأة محافظة، وتتشكل عنده منظومة من القيم التي يبدأ باعتبارها قيماً عليا بمجرد أن يتكون وعيه ويصبح عاقلا، ويشترك في تكوين عقله وأفكاره منظومة أخرى تتحكم فيها أحداث تاريخية ومنعطفات خبرتها الأجيال العربية وحفظتها في الكتب والمناهج الدراسية وعلى ألسنة الأجداد والآباء من مثل "هزيمة" "نكسة" "اتفاقية مشؤومة" "انقلاب عسكري" وغيرها.. فرسّخت في ذهن الإنسان العربي الشعور بالذل والهزيمة والتخلف، فأصبح يعيشها حاضراً ويتربى عليها.

نحتاج فعلاً إلى طرح حلول منطقية لتغيير أسلوبنا بالتفكير والنظر إلى الأشياء والناس التي لا نتفق معها، نحتاج إلى تحسين الرؤية العقلية في دواخلنا.

وعندما اندفعت الأجيال الجديدة نحو الوسائل التكنولوجية الحديثة التي فتحت عيونهم على كل شيء، فصار الممنوع أول ما شدّهم تجاهه وصارت محركات البحث ترصد حركة العقل العربي من خلال كلمات لا تقال في الكتب المدرسية ولا في الجلسات العائلية.. ثم تطور الأمر ليبدأوا بتلقي أفكار سوداوية تقودها مجموعات تحمل قيمهم بالاسم، لكنها تتبنى الفكر الأسود كشعار وتسعى للنيل من آخر قيم الاعتدال لدى العقل العربي.

قلة قليلة جداً نكاد إذا أردنا عدّها على أصابع اليد التي بدأت تُشيح بعقلها ناحية الجديد المفيد من هذه التكنولوجيا وهي ذات الفئة التي تغيّرت وتقبلت الآخر فأنكرتها الفئة الأكبر التي ما تزال على ذات التكوينة العقلية القديمة.

يقول العلامة الراحل محمد عابد الجابري في كتاب "تكوين العقل العربي" إن العقل العربي يفكر بطريقة معيارية.. أي إنه يَختزل الأشياء في قيمتها فتضيق ولا يبقى لها مجالاً للتحليل أو بعد النظر. إنه قليلاً ما يتمكن من فعل العكس وهو التفكير بطريقة موضوعية وتحليل الأشياء من حوله.

وهذا بالفعل ما يحصل، إننا نغرق في التنميط ونحبه، ولحسن الحظ أننا لسنا وحدنا في هذا، فغالبية البشر تحب التنميط ووضع أطر للأشخاص، ولا أبرّئ الغرب الذي تتعزز فيه العنصرية حتى صارت سائدة فيه، بين أولئك الذين لا يشبهون بعضهم البعض باللون والعرق والدين والجنس وغيره. لكن الميزة التي تميز الغرب أن الانفتاح العالمي خلق لدى المتعلمين والمثقفين منهم قدرة على تقبل الاختلاف أكثر. ونحن ما نزال نؤطر من تخلع الحجاب ونطلق حكمنا الخالص عليها وهو الذي لا يُدرك كُنهَهُ إلا خالقها.

ولأنني أحاول التقرب من التفاؤل مؤخراً وأحاول إعادة الأشياء لدوافعها ومسبباتها، ورغم أنني لا أميل كثيراً إلى تلك الكتب التي تلخص نفسياتنا المتعبة وعقولنا المتوغلة في الهموم الحياتية ومشاكلنا الاجتماعية مع الآخرين، لأنني ربما تعبت كما تعب غيري من التحليل والتمحيص في النفس البشرية.

لكن كتاباً جذبني لقراءته لدانييل سيغيل بعنوان "الرؤية العقلية Mindsight… نظرية علمية جديدة للتحوّل النفسي" يتحدث فيه عن إمكانية اكتساب مهارة قراءة دواخلنا بهدف الوصول إلى فهم الشخص لنفسه ومن ثم تقمص مشاعر الآخرين للوصول في النهاية إلى التكامل مع النفس وفهمها، وهو ما قد يساعدنا ويمكننا من التعامل مع الآخرين من حولنا وفهمهم، والتحكم بمشاعرنا وغضبنا وانفعالاتنا وعواطفنا وغير ذلك.

وما ندري.. قد تسمح لنا هذه المهارة أن نبدأ بفهم نمطية تفكيرنا العربية، والتي تطغى عليها المشاعر السلبية والعواطف الآنية والفزعات والغضب والشعور بالنقص والذل وغيرها، ونبدأ بقليل من التعب بالتحكم بهذه المشاعر وتقمص شعور الآخرين من خلال وضع أنفسنا بمواقفهم لفهمها وتبريرها، بدلاً من الحكم المطلق عليها وسجنها في إطارات ذات لون واحد.

نحتاج فعلاً إلى طرح حلول منطقية لتغيير أسلوبنا بالتفكير والنظر إلى الأشياء والناس التي لا نتفق معها، نحتاج إلى تحسين الرؤية العقلية في دواخلنا، ضمن نظرية كتاب "مهزلة العقل البشري" كما رآها الكاتب علي الوردي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.