شعار قسم مدونات

نوستالجيا الثورة السورية

blogs - حمام الشام
باتت كلّ أيامنا تشبه بعضها. لم يكن أحدٌ يتصوّرُ أبداً أنّنا سنصل إلى ما نحن عليه اليوم. قتلٌ دمارٌ وتشريد، دماءٌ أشلاءٌ في كلِّ مكانٍ. نحن بينها نحاول عبثاً إزاحة حطام أحلامنا البريئة، نمدّ أيدينا على أمل أن ينتشلنا أحدٌ من بين الركام، ولكن عبثاً، عبثاً نحاول.

ضاعت الحقوق، ولم نعد نعرف في حضن من غدت الشرعية. من هو الحق؟ ومن هو الباطل؟ من يتألّم على أوجاعنا، ومن يستغلّها، أو يسخر منها. إلى جانب من نقف اليوم؟ العلمانيون أم الإسلاميون؟ ملحدون أم مؤمنون؟ ثوريّون أم سياسيون؟ إلى جانب من نقف؟ ومن يجب علينا أن نشتمه لإفراغ غضبنا؟

الجميع يقاتل الجميع، الكلُّ يقتل الكلّ، شهوة الحرب والقتل تغزو القلوب، والحقد انتشر في كلّ مكانٍ. نشاهد الكراهية علناً في عيون الناس، لا أحد يحبّ أحد، ولا أحد يرحم أحد، إنّ الرحمة لم تعد في قوامسينا القذرة، ولا في قلوبنا السوداء. الجميع يخدع الآخر، المفكر يكذب علينا، والشيخ يسمم عقولنا، والكاتب بأدبه يحتال علينا، والسياسي يمثّل علينا، والمقاتل يوهمنا بأنّه معنا، الصديق يخوننا، والله يراقب الجميع بصمتٍ.

الحنين إلى الماضي قاتل، إلى ماضٍ كُنّا فيه أخوة، ثوّارٌ نمضي على دربٍ واحد، لغايةٍ واحدة. لا مكان للحقد في قلوبنا، ولا الكراهية، ولا الحسد ولا البغض. حينما كانت شهوة القتل نائمة في دواخلنا، ظننّا أنّها تلك الصفات السوداء لم تكن من شيمنا، وتناسينا أنّه "إنّ بعد الظنّ إثم".

أزيّن جدران غرفتي بصور التظاهرات في الماضي الغابر والذكريات الجميلة لأراها كلّ يومٍ، علّني لا أنسى ذلك الماضي. صورٌ تعود إلى سنوات، يوم كانت الثورة في ذروة قوتها، وكان الناس على تلك الرقعة يحبّ بعضهم الآخر. يوم كان الأمل ينير لنا عتمات الليل، وظلمات السجون والمعتقلات. وكانت الأحلام على قيد الحياة، قبل أن يغافلنا القدر ويُفرغ رصاص سلاحه فيها، لتغدو الحياة بلا أيّ معنى، دون أيّ جدوى.

لكم نحتاج اليوم إلى الحبّ، والتسامح. لكم نحتاج نسيان الأحقاد وركلها ودفعها إلى المزابل. لكم نحن بحاجةٍ إلى ثورةٍ على أنفسنا، تطهر قلوبنا من الخطايا، وتنزع الأحقاد الأزلية.

اعتدنا أن نصحوا صباحاً لأجل الحلم، والحلم فقط هو من كان يوقظنا. كان لدينا هدف وأصبح عالمنا يستحق الحياة، صار الأملُ حقيقة بعد أن كان مجرد أمل بلا لونٍ وبلا رائحة. أيامها كنتُ أرى الجميع يبتسم، بل كان الجميع على قيد الحياة، حتّى الحياة كانت تبتسم لنا. هي لم تبتسم لأحد إطلاقاً، سوى نحن ونحن فقط. كانت ترى فينا شعباً يستحق أن يحيا، شعباً ينهض من ركام الذّل ليراقص الحياة. كانت تلك الرقصة الأخيرة، ثمّ خاب ظنّها فينا. نلوم الحياة على ما أصبحنا نعيش من جحيم، ونتناسى أنفسنا. ننسى أنّ الحقد والكراهية فينا يقتلان كلّ الحيوات، ونلقي باللوم عليها، هي من أعطتنا الفرصة ونحن الذين لم نستغلّها حسن الاستغلال.

أسير وحيداً في الشوارع، تباغتني اللعنات والشتائم، صوتٌ يحدّثني من بين الزحام ويصرخ: فاشل، تمطر السماء وتبصق عليّ هي الأخرى، أهرب إلى غرفتي، لأرى صور الشهداء تنظر إليّ باحتقار، هم غاضبون علينا، ولهم كلّ الحق في ذلك.

أحاول دائماً أن أتجاهل الأخبار المشؤومة، وكأنّ في هذا الوطن شيئاً يدعو للسرور، ألم تسأل نفسك متى آخر مرّةٍ سمعت فيها أخباراً سارّة؟ متّى زارت قلبك البهجة؟ متى آخر مرّةٍ خرجت إلى الشارع وشعرت بأنّ على هذا الكوكب ما يستحق أن نحيا لأجله؟ متى شعرت بجمال الحياة؟ لا أخبار سوى عن المجازر والمذابح هذه الأيام، عدا أخبار اقتتال "الثوار" فيما بينهم. جميعهم كاذبون، كلٌّ يقاتل لأجل مشروعه يا صاحبي، لا تظنّ أحداً يقاتل لأجل عينيك!

فصيلٌ يقضي على فصيل! وصاحب فكرةٍ يقاتل لأجل ما يحمل من أفكارٍ أفكارَ الآخر، أخٌ يقتل أخاه، وابن يذبح أباه، كلٌّ يغنّي على ليلاه. كالحيوانات نحاول أن نجعل الفصيلة الأخرى تنقرض! وهنا حقٌّ عليّ أن أعتذر إلى الحيوانات، فما نفعله اليوم بين بعضنا البعض تخجل هي من فعله.

أعتذر اليوم لأبنائنا الذين سيأتون إلى هذه الحياة البائسة، أعتذر إليكم وأشفق عليكم، ستبصرون الظلام عوضاً عن النور، سنعلمكم الكراهية والحقد والبغض، سنعلمكم كيف تقاتلون وكيف تقتلون، لا كيف تحبّون وتغفرون. سنعلمكم ما تعلمنا وستكونون نسخةً عنّا، تقاتلون لأجل أشياءٍ ولدتّم عليها وغرسناها داخل عقولكم. سنعلمكم الكِبر والخيانة والغدر، فهذا ما نفعله فيما بيننا. أعتذر منكم فهذا ما نعرفه في هذه الحياة، وهذه القذراة التي نمارسها بشغفٍ كلّ يومٍ.

لكم نحتاج اليوم إلى الحبّ، والتسامح. لكم نحتاج نسيان الأحقاد وركلها ودفعها إلى المزابل. لكم نحن بحاجةٍ إلى ثورةٍ على أنفسنا، تطهر قلوبنا من الخطايا، وتنزع الأحقاد الأزلية. لإحياء الأمل بعد الممات، لبزوغ الفجر بعد ظلمات الليالي في دوخلنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.