شعار قسم مدونات

التفكير مع العلمانية لنقد العلمانية

blogs - islam
إن إستراتيجية النقد التي أتبناها هنا، هي المضي قدماً مع أي فكر بغية استيعابه أولاً، ومن ثم البدء في طرح الأسئلة عليه من داخل بنائه الخاص، وذلك بغية بيان المتانة المنطقية لأسسه وعدم تناقضها.

إن السياسة صناعة بشرية بامتياز، تنبثق عن رؤى وأفكار الإنسان الذي يعيش واقعاً ما، له جملة من المتطلبات والقضايا التي تقتضي عليه التكيف بحسبها بين كل فترة وأخرى، وهو أمر له دلالة أن هذا الواقع حي ومستمر الصيرورة، لذا فإن أي محاولة لفهمه وتنظيمه يجب أن تراعي مسألة حركته الدائمة، وهي حقيقة تجعل أي محاولة لتنظيمه من خلال فكر "مطلق" تأخذ النصيب الأقل نسبة من النجاح، فهي محاولة إما أن تصلب الواقع وتجمده، أو هي تفرض على ذلك المطلق أن يتلون ويتغير بحسب التغيرات التي تطرأ على هذا الواقع، وفي الحالة الثانية تحديداً ستفقد صفة "المطلق" وتصبح أكثر بشرية ومرونة، أي إننا إزاء التضحية إما بالواقع، أو بالفكر المطلق، لتضعنا هذه التضحية أمام منطق هذا السؤال: هل الدين للدنيا؟ أم الدنيا للدين؟ فكانت الإجابة لدى العلمانية أن أي محاولة للي ذراع الدنيا لتتطابق مع الدين، هي محاولة لن تنقذ الإنسان العربي مما هو فيه من تخلف.

العلمانية حين تبرز نفسها كخلاص شمولي، تغفل حقيقة أن العلل المخلصة لأزمة العقل العربي لا ترتد إلى علّة واحدة فقط.

إن العلمانية "Secularism" موقف من الدين والدولة قائم على الفصل بينهما، فهي دعوة من أجل الدولة المدنية، والتدين اللاأيديولوجي، أو التدين الذي لا يأخذ بعداً سياسياً، ولذلك فهي بالضرورة تعطي بعداً حيادياً عقيدياً وأخلاقياً لنظام الدولة، ولذلك من الطبيعي أن يكون الخطاب العلماني العربي لدى أصحابه يشكل حالة من الإصلاح المضاد للفكر الأصولي، أو لمفهوم الدولة الكُليانية "Totalitarian" وهو أول ما يؤخذ على أصحاب الخطابات الأصولية، أو دعاة "عالمية الإسلام"، أو القائلين بمفهوم الصحوة الإسلامية الذي شاع استخدامه بعد الثورة الخمينية في إيران، وهي خطابات في عمومها تنطلق من "حقيقة" دينامية الإسلام وحركيته، وضرورة الحاكمية لله وحده، ورفض "حاكمية الطاغوت".

بيد أن العقلية العلمانية لا تتصور أن الحياة قد جيء بها ليكون دور الإنسان مجرد الامتثال فقط لحاكمية ما، وأن العقل البشري لا يمكن له أن يكون سجين أوامر مطلقة تختزل جوانب الحياة جميعها تحت مفهومي "الحلال والحرام"، وبالتالي إقصاء استقلالية العقل، وحرية التعبير والنقد، هذا بالإضافة إلى أن الخطاب العلماني العربي يرى أن مفهوم "الشريعة أو الحكم الإلهي" بالمعنى نفسه الذي يستخدمه أصحابه، لا يعني الحاكمية لله، فمثل هذه الحاكمية ستكون ملحقة بالله اسماً فقط "الوجود الصوري" لأنها ستطبق على البشر، ومن يتولى تطبيقها هم ثلّة من البشر أيضاً، لتكون فرصة تفتح الأبواب للتلاعب بالدين وتسييسه. فكان الخلاص على الطريقة العلمانية هو فصل الدين عن الدولة، والحياد العقيدي التام لنظامها.

بيد أنه يؤخذ على خطاب كهذا عدة نقاط، تشكل مأزقاً حقيقياً للعلمانيين العرب من حيث النظرية والتطبيق، إذ ما انفكت العلمانية من تسويغ نفسها كخلاص لمشكلة تسييس الدين، وذلك بعد تفكيك وهدم الخطاب الأصولي أو السلفي، الذي يقف على طرف النقيض معها في معادلة الاستبعاد بالتبادل، متجاهلة أن النهضة التي تهدف إليها، ثمة خطابات أخرى تدعي إمكانية تحقيقها أيضاً بطرائقها الخاصة، كالخطاب الليبرالي واليساري والقومي والإسلامي، فالعلمانية حين تبرز نفسها كخلاص شمولي، تغفل حقيقة أن العلل المخلصة لأزمة العقل العربي لا ترتد إلى علّة واحدة فقط.

أما المأزق الأهم، فهو يكمن في مقولة الفصل، ومقولة الحرية، كأهم مقولات الخطاب العلماني، فمقولة الفصل تفرض على الدولة رفض تدخل الدين بالسياسية، هذا إن كنا نتحدث عن علمانية جزئية أو لينة، بينما العلمانية الكلية أو الانفصالية الأيديولوجية فهي ترفض حتى الرموز الدينية، كمنع الحجاب والأذان، أو كما تفعله فرنسا اليوم من رفض لما يسمى "بالبوركيني" كزي اعتبره البعض شرعياً للنساء اللاتي يردن السباحة في البحر.

يؤخذ على الخطاب العلماني العربي سعيه لعزل الدين عن السياسة كمريض دون أن تأبه بعلاجه، وذلك بعد تصويره كخطاب معادي لنهضتهم المنشودة.

هذا على صعيد الأمور الشكلية، وبصرف النظر عن ضروب العلمانية وتطبيقاتها، أما على الصعيد الأبستيمولوجي، فثمة تناقض في الجانب التطبيقي للخطاب العلماني، إذ يظهر تنافر بين مفهومي الفصل والحرية، والتنافر يتعاظم أكثر إذا ما تحدثنا عن حال المجتمعات العربية المليئة بتصورات دينية، والمأزق العلماني هنا، هو مأزق التوفيق بين سؤال الفصل وسؤال الحرية في مجتمعات تعج بكثير من التصورات السياسية الدينية، وبعملية تداخل مستمرة بين السياسي والديني، وبعبارة أخرى، إن تطبيق مقولة فصل الدين عن الدولة يستدعي بالتتابع انتهاك لمقولة الحرية، أعني حرية جماعات معينة في تشكيل الأحزاب الدينية، وحريتها في تمثيل نفسها سياسياً داخل الدولة، فكيف إذاً يمكن للنظام العلماني من تطبيق فصل الدين عن الدولة، دون انتهاك حرية جماعات تنطلق في تفكيرها من منطلقات دينية؟؟ وكل علماني عربي مدعو لأن يجيب على هذا السؤال.

أيضاً يغفل أصحاب الخطاب العلماني الشروط التاريخية التي أنتجت العلمانية في الثقافة الغربية، إذ ما زالوا راهناً يمارسون عملية استجلاب العلمانية التي نشأة في الغرب، متجاهلين أن الواقع العربي الذي يعاني من عدة إشكالات، هو ووحده فقط، من يفرض حلوله دون عملية استيراد حلولاً جاهزة من الغرب.

ختاماً يؤخذ على الخطاب العلماني العربي سعيه لعزل الدين عن السياسة كمريض دون أن تأبه بعلاجه، وذلك بعد تصويره كخطاب معادي لنهضتهم المنشودة، مما شكل استقطاباً حاداً بينهما في الفكر العربي المعاصر، وهو ما حدث في تجربة فعلية في تونس بورقيبه حيث كانت العلمانية تبني "نهضتها" على أنقاض الشريعة التي تم تصويرها كإرث متقاطع مع النهضة المبتغاة هناك، والتي لم تنجح في آخر الأمر.

ولكن ثمة نقطة في غاية الأهمية برأيي يغفلها الخطاب العلماني لا تدعم فكرة "الفصل التام"، ذلك أن مشكلة الوطن العربي هي مشكلة فضاءات سياسية دينية معاً، وبحيث لا تنفع معها العلمانية وحدها، لذا ثمة إمكانية تضافر هذه الجهود، وذلك استجابة لحق الاختلاف، لاسيما الجهد الإسلامي والجهد العلماني بعد تخليصهما من شرَك الدوغماء والتعصب، وتحويلهما لخطابات متصالحة فيما بينها، لنكون أمام خطاب إسلامي عقلاني تأويلي، وخطاب علماني إنسانوي بينذاتي متخلياً عن فكرة الفصل التام، حيث يشكلان عقلانية تواصلية، وليست متضادة البتة، لأن سؤال النهضة لن تكون إجابته بعلة واحدة، أو بخطاب أحادي الجانب، وذلك استجابة لأزمة العقل العربي الذي هو بحاجة ماسة اليوم إلى بيروستراويكا جدلية على صعيد السياسة والدين معاً، فالسياسة بحاجة لفلسفة تنوير، والدين بحاجة إلى لاهوت تحرير، لتكون فلسفة النهضة المنشودة عربية أصيلة بمنأى عن أي تقليد للفضاءات السياسية الدينية الغربية، أو حتى محاكاة لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.