شعار قسم مدونات

في حب بطلي

Blogs- father

"هي قرة العين و تفاحة القلب" هذا ما قاله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه  وأرضاه عندما دخل عليه عمرو بن العاص رضي الله عنه ، فوجد عنده ابنة له فسأله عنها فأجابه بتلك الكلمات التي اختزلت الحب، واختصرت الحنان، وأوجزت معاني المودة والاحترام، فلخص أمير الأمويين عظيم حبه، وكثير فخره، وجلَّ المشاعر الأبوية، وكثير الرحمة الإنسانية التي فطر الله بها قلوب الآباء على اختلاف نفوسهم، حيث أن الأب بكل ما تعني هذه الكلمة من قوةٍ وعنفوان للفتاة يبقى فؤاده هشاً رقيقاً قد عُجِن بماء رهافة بُنياته، ونعومة فتياته، وحُسن بنات فؤاده، فتغدو قسوته الفطرية ليناً أمام حُبيبات قلبه، وتصبح قوته الأزلية ضعفاً في حضرة أجزاء روحه.

              

فهذا مؤسس الدولة الأموية "معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنه وأرضاه يجد في ابنته قُرة عينه، ومبلغ سعادته، وقرارة قلبه، لأنه وقبل أن يكون أميراً، ومالكاً، وممتلكاً لعدةٍ من أمصار المسلمين، كان والداً محباً معجباً بابنته، فالجانب الأبوي أغلب وأقوى من كل جانب حيث أن سطوته على نفس الوالد سطوة إنسانية من المركبات البشرية، ولكنها تتباين من شخصٍ لآخر، ولكنني على ثقة بأنها بلغت مبلغها وأخذت حيزاً شاسعاً كبيراً من قلبٍ تألق بالمودة، وارتقى بالمحبة، فكان جوهره ليناً سهلاً قد مُزج بأفئدة ثلاث بُنيات، فأضحى ممتلئاً بالبسمات، شاهقاً بالعطاء والتضحيات، نهراً رقراقاً من الحنان والأخلاقيات، إنه قلب "أبي" الذي جعل من حديث رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم درباً ومسلكاً، لا يسلكه إلا العظماء؟ فعن الحبيب المصطفى عليه أفضل والتسليم أنه قال  "إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها و يؤذيني ما أذاها " رواه مسلم.

           

هناك أحاسيس راقية لا يمكن أن تكون إلا بالوالد قادرةً على جعل نُدب الدهر وروداً ومن أشواكه بلسماً ومن شقائه سعادة 
هناك أحاسيس راقية لا يمكن أن تكون إلا بالوالد قادرةً على جعل نُدب الدهر وروداً ومن أشواكه بلسماً ومن شقائه سعادة 
     

سألت والدي ما معنى أن يكون جلُّ أولادك من البنات، أجابني بوقاره المعتاد "أن يكون لديكِ بنات يعني أن تعتادي على الحياة بجزء من قلبك ونيفٍ من روحك وبضع من لُبك هكذا هُن البنات يقتسمن الفؤاد بلا رحمة ببسمة أو كلمة وكليمة فإذا دُق الباب وأعلن العمر أن طفلتي التي لا تكبر بعيني قد كَبُرَت حقاً، وأُخِذت من بين يدي على حين غُرة، تحتم علي حينها أن أعتاد على العيش مقسماً بين هنا وهناك وهنالك حيث أنا وضحكات بناتي وأصوات بُنياتي، أن يكون جلُّ أولادي من البنات فهذا يعني أن كل أيامي نفحات ونسمات، أن أصعب أيامي تهون بقصصهن وأسعد أوقاتي قد تغدو سوء على سوء بانحدار دمعة أو تأوهٍ من ألم، هكذا هن البنات مؤنسات غاليات". 

         

العاطفة التي توحد الآلام وتجمع الأسقام فيغدو الحزن أحزان والفرح أفراح هذه العاطفة النبيلة التي اكتست بالصدق الأبوي النقي فجعلت من وقع المصيبة المدوية لحناً عذباً تُصيغه رأفةٌ أبوية، وتجمله حكمة إنسانية، وترصعه قيم وأخلاقيات سامية، ولقد كانت هذه الأحاسيس الراقية التي لا يمكن أن تكون إلا بالوالد قادرةً على جعل نُدب الدهر وروداً ومن أشواكه بلسماً ومن شقائه سعادة فأيُّ شعور هو؟ بل أيُّ قدرة أنبتها الله بنفوس معشر الآباء فجعلهم يزهرون في وسط شقاء الأيام وعواصف الزمان!

       

وحدة المبدأ وتماثل القيم وتشابه الدرب اقتضت بأن يكون أي أَذى لفاطمة بنت رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام هو أَذىً لحبيب الله حيث أن الوالد هو الذي يصقل أفهام أبنائه، ويجعل من ظلام أفكارهم أنواراً تنير أروقة أرواحهم، هو الذي يحول هشاشة نفوسهم إلى قوة منبعها ثقة لا تنضب، هو الذي يجعل من خجل أولاده حياءً وأدباً لا ينقطع.

         

نعم، إن والدي الذي جعل من ويلات الحرب درباً نسلكه باسمين، ومن مرارة الفقد صبرٌ نحتسبه عند رب العالمين، ومن غُربات تعددت ألفةً ومودةً مع كل المسلمين، جعل من تزعزعنا ثباتاً ومن سخطنا رضىً، ومن تمردنا حريةً، أبى أبي إلا أن نغدو كما رُسم لنا، ولو كان ذلك في زمن الحرب، أبى أبي أن نرضخ للظروف أن نستسلم للمعطيات أن ننتظر الفرج آملين بل سلّحنا بالإرادة، وسقى قلوبنا بالإيمان بأننا جند اليوم والغد على حدٍ سواء، العرفان والامتنان لا يكفي لَكَ يا والدي، بل هي جنان عند الرحمن ندعو لك بها آناء الليل وأطراف النهار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.