شعار قسم مدونات

الكيمياء الحيوية.. وتحمل مسؤولية ذواتنا

blogs الكيمياء الحيوية

ربما تكون إحدى الحقائق القليلة الذي يقر بها الجميع حاليا أننا جيل يعاني، يعاني كثيرا على المستوى النفسي خصوصا. وبعيدا عن صدق هذه المعاناة من عدمها، وبعيدا عن أسبابها أيضا، فقد قفز الطب النفسي ليحتل دور البطولة في إعادة ترتيب الفوضى التي أحدثتها تفاصيل هذه المعاناة.

 

فها هي تفسيرات الكيمياء الحيوية لما يحدث داخل جسم الإنسان عند الحزن، والفرح، والألم، والفقد وغيرها تنتشر، ليستسلم الجميع لمراثيهم الذاتية، ويخضعوا لإرادة الكيمياء وقدرة التفاعلات، هذه الكيمياء الخارجة عن إرادتنا والتي تتحكم في انفعالاتنا اليومية ومصائرنا الدنيوية.

 

فها نحن نستطيع أن نصنف البشر إلى أشخاص أكثر انفعالا عاطفيا مع الأحداث وأقل حساسية تجاهها تبعا لعدد الخلايا التي تفرز مسكنات أفيونية في الدماغ، وها نحن أيضا نستطيع رد كل أفعال النساء المعقول منها وغير المعقول إلى هرموناتهن الأنثوية، وها نحن قد أصبحنا نملك قاموسا واسعا من المصطلحات التي نسمي بها خوفنا من المرتفعات، وامتعاضنا من أصوات مضغ الطعام، وحبنا لشراء الكتب، وحتى كره البعض للجبن قد أصبح له اسم علمي.

أصبح الحل الأول في تعاملنا مع مشاعرنا هو اللجوء للطبيب النفسي، الذي نتخيل فيه القدرة على ضبط كيمياء جسدنا، وجعلنا نشعر بالرضا والسعادة
أصبح الحل الأول في تعاملنا مع مشاعرنا هو اللجوء للطبيب النفسي، الذي نتخيل فيه القدرة على ضبط كيمياء جسدنا، وجعلنا نشعر بالرضا والسعادة
 

وهذا على الأغلب عود على بدء لمسيرة "نحن نعرف أكثر منك" التي بدأها أباءنا، ومعلمونا، وشيوخ الدين، والأطباء، وعلماء الكيمياء والفيزياء وغيرهم الكثير، والتي ما إن حاولنا الحيد عنها حتى قوبلنا بالفشل الذريع. الفشل الذي أفقدنا البوصلة فلم نعد ندرك في أي اتجاه يجب أن نتحرك، ولا كيف نتعامل مع ما أصابنا من حزن وألم وخوف. فعدنا نبحث عمن يعرف أكثر منا ما الذي نمر به، وهل هناك أكثر يقينية من الطب! فعلمٌ كالطب هدفه تحسين صحة الإنسان، ورفع جودة حياته، وزيادة عمره بالتأكيد يصلح لأن يُعتبر طوق نجاة. ونتيجة لجهلنا – أو لتجهيلنا – بأنفسنا سلمنا لما نعتقد فيه المعرفة والقدرة على التعامل بحكمة مع ما نجهل.

 

وأصبح الحل الأول في تعاملنا مع مشاعرنا هو اللجوء للطبيب النفسي، الذي نتخيل فيه القدرة على ضبط كيمياء جسدنا، وجعلنا نشعر بالرضا والسعادة. فأنبوبة الاختبار -أجسادنا في هذه الحالة- المليئة بالمواد الكيميائية يمكن أن تُضبط التفاعلات فيها بإضافة مادة كيميائية جديدة. وإن كان هذا صحيحا لما كانت هناك حاجة لمستشفيات الصحة النفسية، ولما اختلف الأطباء فيما بينهم حول طرق وأساليب العلاج المجدية لمعاناتنا الشعورية، ولما كانت مضادات الاكتئاب تسبب بدورها الاكتئاب كعرض جانبي لقدرتها العلاجية.

 

وبعيدا حتى عن قدرة الطبيب النفسي على التدخل الكيميائي، فإن البعض يظن أن الطبيب سيحل له كل مشاكله بأن يخبره ما الذي عليه فعله، وهذا لا يحدث أيضا. فالطبيب يحاول أن يكشف بمساعدة الشخص الذي يعاني عما يكمن وراء معاناته، ويقترح الحلول التي قد تصيب وقد تخيب. هذا إن استثنينا الأطباء النفسيين -الصنايعية- الذين يتعاملون مع أجساد المرضى كآلة ميكانيكية معطلة لا أكثر ولا أقل.

هذا اللجوء المبالغ فيه لوسيلة من وسائل التداوي الممكنة والتي تصبح ضرورية بلا جدال في بعض الحالات، يُخفي تحته قدر كبير من الهروب من تحمل مسؤولية نفوسنا كبشر، ومن تحمل مسؤولياتنا الاجتماعية كأفراد يؤثر حالهم على المجموع إيجابا وسلبا. فالإنسان هو أقدر الأشخاص على فهم شعوره ودوافعه، ما يزيده وما يهدئه، وهو الأقدر بعد على فهم احتياجاته. قد يساعده الطبيب أو أي شخص حكيم ثقة على طرح تساؤلات حول شعوره، أو اقتراح حلول قد تناسب مشاكله، أو طرق يشبع بها حاجاته. ولكن لا الطبيب ولا الحكيم قادران على الإجابة اليقينية عن هذه الأسئلة، وحده الإنسان هو القادر على ذلك.

 

سعي الإنسان لفهم ذاته، وإدراك مواضع القوة والضعف فيها فهماً يبعده عن الذلل واقتراف الأخطاء، هو بالتأكيد جهد محمود في الدنيا وفي الأخرة على حد سواء
سعي الإنسان لفهم ذاته، وإدراك مواضع القوة والضعف فيها فهماً يبعده عن الذلل واقتراف الأخطاء، هو بالتأكيد جهد محمود في الدنيا وفي الأخرة على حد سواء
 

فبالقليل من المجهود، والكثير من الصراحة مع النفس، وبالتحرر من الخوف وقلة الثقة في قدراتنا نستطيع أن نضع أيدينا على ما يؤرق عقولنا ويؤلم قلوبنا، وأن نصبح أكثر قدرة على تفهم احتياجاتنا وتلبيتها. وكذلك فإن تخيل انفصال مشاعرنا عن مكاننا من محيطنا الاجتماعي هو أمر قد يزيد المشكلة، ففي حين أننا قد نبحث عن حل عند الطبيب مثلا، يكون الحل في توثيق وتحسين علاقاتنا مع من حولنا، وخلق مساحة للاحتواء والدعم مصدرها الحب والرعاية المتبادلان.

والطبيعة النفسية لكل إنسان مثلها مثل ظروفه الحياتية ومثلها مثل شكله الخارجي، هي إحدى الابتلاءات الحياتية. والابتلاء هنا ليس بمعنى المصيبة ولكنه بمعنى الاختبار. فسعي الإنسان لفهم ذاته، وإدراك مواضع القوة والضعف فيها فهماً يبعده عن الذلل واقتراف الأخطاء، ويقربه من زيادة خيريته في الحياة، ويعينه على التزام الطيب من الأخلاق والجميل من السلوك فيها، هو بالتأكيد جهد محمود في الدنيا وفي الأخرة على حد سواء. لذا فإن صيانة نفسه ورعايته لها بما يصلحها هو إحدى المسؤوليات الشخصية الأساسية التي يجب على كل فرد الانتباه لها والقيام عليها بنفسه.

وعلى النقيض من المبالغة في اللجوء للأطباء النفسيين بلا بذل مجهود لاستصلاح النفس وصيانتها، يغرق أخرون في أنفسهم. يدورون حول رغباتهم، ويقدسون مشاعرهم وأفكارهم، ويُقيمون ما يجمعهم بغيرهم في الحياة وفق أهوائهم. وآخرون يرصدون كل شاردة وواردة على نفوسهم، يغالون في الضغط على أنفسهم ويغوصون في دواخلها بداعي الصدق، غير أنهم يغرقون فيها. فتتداعى قدرتهم على الحركة في الحياة، ويرهقون أرواحهم بما لا يطيقون. لذا فبين الهروب من الذات والغرق فيها مساحة واسعة تكفينا للبناء عليها. بناء الثقة في النفس، وتعزيز القدرة على فهم احتياجاتها وتلبيتها باتزان، وبناء العلاقات وتدعيمها لتكون ملجئاً حين يملك الوهن أرواحنا ويتمكن اليأس منها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.